تناثرت الأنباء عن ترشيح الدكتور محمد يسري إبراهيم -عضو حزب الأصالة السلفي- لتولي وزارة الأوقاف.. قامت قيامة الكثيرين من دعاة مدنية الدولة ولم تقعد.. وزير أوقاف سلفي؟! يا للهول.. كيف يجروء.. لا تهمني صحة هذه الأنباء بقدر ما أهمني رد الفعل.. حديث مستنكر لتولي سلفي هذا المنصب الخطير، وحجج عن أن صاحب هذا المنصب عليه أن يكون أزهريا.. واستنكار لارتداء الرجل الزي الأزهري رغم كونه لا يعتنق لا الاتجاه الأشعري ولا الصوفي.. وصيحات تحذّر من استغلال الرجل منصبه -لو تولاه- للعمل على استحواذ السلفيين على الولاية على المساجد في مصر. أمر مؤسف في مصر ما بعد الثورة أن يكون قبول أو رفض تولي مواطن مصري منصبا تنفيذيا مبنيا على انتمائه الديني أو السياسي.. ومما يؤسف أيضا أن يُبنَى موقف هؤلاء الرافضون -ومنهم أسماء محترمة كإبراهيم الهضيبي والشيخ أنس السلطان- على مجرد افتراضات مستقبلية وظنون. لو تناولنا الرافضين على أساس التوجه الديني للدكتور محمد يسري إبراهيم، فأننا نجدهم يمارسون إقصاء مشينا لتيار كامل من الانتماء للمؤسسة الأزهرية المصرية العريقة، التي طالما كانت منارة لكل المسلمين في العالم على تنوع واختلاف توجهاتهم؛ بل هو كذلك قصر للمناصب الإدارية الدينية على مذهب بعينه، وهو بالتأكيد أمر يتعارض مع ما سعى إليه السلطان المملوكي الظاهر بيبرس حين أعاد إحياء وافتتاح الأزهر ليكون بوابة سنية للعلم والفقه وجامعة للمسلمين في العالم أجمع، بعد أن كان صلاح الدين الأيوبي قد أغلقه لكونه كان قبل عهده وسيلة للفاطميين لنشر مذهبهم الشيعي. بيبرس حين أحيا الأزهر حرص على التأكيد على تنوعه المذهبي؛ من خلال إقراره أربعة قضاة لكل من المذاهب السنية الأربعة (الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي) معلنا للمسلمين أن التنوع هو عنوان الأزهر، وأن تقبل الآخر هو اتجاهه.. فكيف نهدم برفضنا الهوية الأزهرية لسلفي هذا المعنى الراقي العظيم الذي أثرى الحياة الدينية الإسلامية في مصر والعالم؟! ثم إن الاتجاه السلفي قد قدّم لنا علماء أزهريين عظماء على رأسهم الإمام محمد عبده رحمه الله، وإن تحجج البعض أن أغلب التيار السلفي قد حاد عن وسطية وتفتح مدرسة محمد عبده؛ فإن هذا القول ليس مما يُعتدّ به، فليس من العدل ولا المنطق أن ننفي تيارا بأكمله لخلل اعتراه.. عوضا عن أن نسعى لاحتواء هذا التيار وإصلاحه بشتى السُبُل. وأما إذا تناولنا القول بأن تولى شخصية سلفية منصب وزير الأوقاف قد يؤدي لتسهيل هذه الشخصية سيطرة السلفيين على المساجد واستغلالها لتحقيقهم مكاسب سياسية؛ فإن الردّ على القائلين بهذا هو أن الأخلاق والعقل والعدل في التعامل بين أهل التيارات السياسية المختلفة يقتضون عدم الأخذ بالظنون وبناء المواقف عليها. صحيح أن التيار السلفي قد صدر عنه قطاع كبير منه أخطاء فادحة وإساءات بحق باقي التيارات؛ ولكن أين مبادئ العدل الإلهي القائلة: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ}، و{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا}.. أين كذلك مبادئ المواطنة التي ننادي بها جميعا والتي تُقول إن المعايير الوحيدة لقبول أو رفض تولي مواطن مصري هذا المنصب أو ذاك هو الكفاءة والأمانة؟ قد يقول البعض إن الشيخ المذكور قد نُسِبَت إليه أقوال مسيئة لمنافسه في انتخابات مجلس الشعب الدكتور مصطفى النجار؛ ولكني للأمانة قد أضناني البحث عن أدلة محترمة على صحة هذه التهمة ولم أجد ما يؤكّدها، إذن فما دام أن المبدأ في إثبات الاتهام أن "البينة على من ادّعى" وأن "الأصل في الإنسان البراءة"؛ فإني أخلاقيا أجدني ملتزما بنفي هذه التهمة عن الدكتور يسري إبراهيم نفيا قاطعا. ولكن مع الأسف فإن قطاعا كبيرا من دعاة مدنية الدولة والعدالة بين المواطنين يغمضون أعين ضمائرهم حين يمس الأمر تيارا منافسا لهم، ويقعون في أعتى أنواع الظلم بحق غيرهم، ويتنازلون عن مبادئهم، ويتعاملون مع الآخر من خلال معلومات مستندة على طريقة "بيقول لك".. ولعمري لو كان "بيقول لك" رجلا لقتلته! وإني أراهن أن أغلب الرافضين لترشح الشيخ السلفي محل الجدل للمنصب المذكور لم يقرأوا عن سيرته الذاتية بقدر ما قرأوا عما نُسِبَ له من مثالب ونقائص. إن موضوع حديثي ليس الدفاع عن الدكتور يسري إبراهيم نفسه؛ بل هو الدفاع عن أخلاقيات الثورة ومبادئها، والتي تقول إن المانع الوحيد من تولي مصري لمنصب ما هو إما إدانته بجريمة بعد تحقيق عادل ومحاكمة عادلة، أو انتماء لا شك فيه للنظام السابق، أو انعدام واضح لا لبس فيه للكفاءة، أما ما سوى ذلك فهو مجرد "تلكيك" -لو سمحتم لي باللفظ- واستمرار لسياسة نظام مبارك الذي إن كان قد اعتقل السلفيين جسديا؛ فمع الأسف بيننا الآن من يحاولون اعتقالهم معنويا بنشر الخوف منهم. صحيح أن كثيرا من السلفيين قد صدرت عنهم مواقف فاحشة السوء تعبّر عن تعصبهم ورفضهم الآخر وإقصائيتهم؛ ولكن لكل تيار مواقفه التي يبلغ بعضها حد الكارثية.. وإن كان التيار الديني -كما أرى- هو أكثر كل التيارات تورطا في الأخطاء سالفة الذكر؛ فإن علاج الخلل والعلة ليس في إقصائه وعزله بل في احتوائه وضمّه وتقويمه، وإلا فلننذر أنفسنا بالتحول لطغاة كأولئك الذين خرجنا يوم 25 يناير 2011 لخلعهم، وتحول المعزول لفئة حاقدة على المجتمع تتلقى العنصرية وتبثه العنصرية المضادة. إذن.. لهؤلاء الذين ينتسبون للتيار المدني المنادي بالمساواة والحق والمنذر ممن ينادون بأفكار رجعية متأخرة.. اعتدلوا يرحمكم الله.. وإلا فإنكم ستكونون المدانين بحق بنشر الرجعية والتخلف.. وإعادة إنتاج النظام السابق بكل قبحه وفحشه وإقصائيته. اعتدلوا.. وطبقوا على أنفسكم ومواقفكم ما تطالبون به من مبادئ؛ حتى لا تكونون ممن يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم.