كان الجزآن السابقان من مذكرات الدكتور مصطفى محمود التي تنشرها المصري اليوم يركزان على الحديث عن المرأة في حياته؛ بداية من والدته التي تركت فيه أبلغ الأثر، مروراً بأخته الكبرى زكية وزوجته الأولى التي ظلت ترعاه حتى بعد أن انفصلا، وحتى ابنته أمل التي ارتبط بها كثيراً خصوصاً في تلك السنوات الأخيرة التي شهدت اشتداد المرض عليه.. في هذا الجزء يتحدّث بالتفصيل عن تجربة زواجه الثانية والتي رغم فشلها زادته قناعة أنه لم يُخلق لكي يكون مثل سائر الناس بل خُلق لكي يُسخر نفسه من أجل العِلم ومساعدة الناس، والتفرّغ للتأمل والقراءة والكتابة.. وعن التجربة بالتفصيل من فضلك انتقل للسطور التالية....
لم تتحقق أمنية الاستقرار التي حلمت بها "لم يخضع قلبي لعملية إجهاض لفشلي في الزيجة الأولى.. ولم يكن مصيري الاختباء داخل غرفتي أو منزلي لمروري بتجربة زوجية كان مقدرا لها النجاح ولكنها فشلت، مثلما يفعل الضعفاء من الرجال في مثل هذه المواقف.. بل كنت أقوى بكثير مما تتوقعون، واجهت الانفصال الأول في حياتي بدبلوماسية وهدوء؛ لأنني كنت قد توصلت إلى القرار بعد تفكير عميق.. بعد أن أصبحت الحياة الزوجية مستحيلة لتبنيها للغيرة القاتلة".. كانت هذه كلمات المفكر مصطفى محمود بعد أن انتهى من آخر سطر في قصة زواجه الأولى. فبينما كان يومه في هذه الفترة مقسّماً إلى عدة أجزاء.. ما بين علمه وإيمانه وأوراقه ومؤسسته الخيرية وبرنامجه وتطلعاته.. كانت عملية تفسير القرآن تأخذ منه ربع يومه الطويل الذي كان لا ينام فيه سوى ثلاث ساعات، وكان دائماً يُحاول الوصول منها إلى شيء لا يُدركه.. ثم يترك القرآن ليغلق على نفسه سطح الجمعية ليراقب السماء، لا يستيقظ من تلك الساعات التي يسبح فيها مع ملكوت الخالق إلا بعد أن يطرق أحد العاملين في برنامج "العلم والإيمان" على الباب؛ لأن موعد التصوير قد حان.. وهكذا كانت تدور الحياة.. وكان يسأل نفسه دائماً: هل أنا سعيد؟؟ ألا ينقصني شيء؟؟ كان هذا السؤال سؤالاً ملحاً لا بد للدكتور من الإجابة عليه، فقال يُجيب على نفسه: "لم تتحقق أمنية الاستقرار التي حلمت بها.. حلمت دائماً بحياة أشبه بحياة أبي وأمي وطالما بحثت عنها طويلاً.. قضية الغيرة مع سامية عرقلت هذا الحلم.. وفوجئت في أحد الأيام بأنني أعيش وحدي بدونها.. وأخذت وقتاً حتى تعوّدت على النظام الجديد.. كنت في هذه الأيام بدأت حلماً اسمه (الجمعية) كتبت آلاف الأوراق وسجلت عشرات الحلقات التي تتكلم عن العلم والإيمان، وعرفت أن هناك خلاصة واحدة لاندماج الاثنين وتتمثل في شيء اسمه (العمل)". ويُتابع: "لأن الحب الأول في حياتي قد ذهب ضحية الغيرة فقد ظللت أكثر من ثماني سنوات صائماً عن الزواج، لدرجة أن أصدقائي المقرّبين أطلقوا عليّ جملة أصبحت بعد ذلك على لسان القريب والبعيد وهي "درش عنده عقدة الحريمات"، ولكنني بعد تفكير عميق وطويل تطلب مني عزلة استمرت لعدة أشهر أفكر في الأمر، وأقرأ كل الكتب السماوية والتفاسير والأحاديث النبوية لأتوصل إلى حقيقة المرأة، وكيف يُمكن السيطرة عليها، إلا أنني أوقفت التفكير في كيفية السيطرة عليها عندما قابلت زينب".
استطاعت هي أن تبعد عني عقدي تجاه النساء وهنا في لقائه بزوجته زينب قصة يرويها هو قائلاً: "زينب قابلتها عام 1981، تعرّفت عليها داخل مجلة صباح الخير أثناء نقاش دار بينها وبين مفيد فوزي وبعض الأصدقاء حول لغز الحياة والموت، وظللت أستمع لها دون تدخل ثم استأذنت منهم جميعاً وناقشتها بعد ذلك بنفسي واقتنعت بها وأعجبت بشخصيتها القوية.. كان لها أفكار غير الأفكار التي أقابلها كل يوم.. وقمت بدعوتها بعد ذلك لزيارة الجمعية والمسجد لترى الإنشاءات الجديدة.. وعندما حضرت أعطيتها مجموعة من الكتب وكتبت لها إهدائي عليها، وكانت هي في ذلك الوقت تعمل مأمورة ضرائب، ولكنها كانت مثقفة دينياً وكانت محجبة.. ولديها موهبة الخطابة وحساسة، وجلست كثيراً أفكر في الارتباط بها، وكانت تحادثني نفسي أحياناً: هل تريد تكرار المأساة فهذه هي المرأة التي أخرجت آدم من الجنة؟". ولكن إعجابي بها كان إعجابا أكثر من إعجابي بأنثى؛ فهو إعجاب بأنثى وفكرة.. واستطاعت هي أن تبعد عني عقدي تجاه النساء، وعلى الفور صارحتها بما يحوي قلبي من مشاعر حب تجاهها، ولكني لم أبلغها بأني أعد لها مفاجأة وهي أنني قررت التقدّم لطلب يديها من أسرتها.. دعوت نفسي على العشاء في بيتها في ليلة ما. ويتابع: "وللمصادفة كان اليوم الموافق يوم المولد النبوي وبعد العشاء وبينما أحتسي الشاي مع أخيها أحمد ووالدتها، طلبت يدها بمنتهى الرقي والبساطة والهدوء، وكانت مفاجأة بالنسبة لها فلم أخبرها كما ذكرت، ولكنها قبلت على الفور وكانت سعيدة جدا ورحبت أسرتها بطلبي، وكان وقتها فارق السن بيننا كبيراً فقد كانت هي في الخامسة والثلاثين من عمرها، بينما أنا في الستين من عمري، ولكني لم أكن خاضعاً للشيخوخة التي تهاجم من هم في مثل عمري ولم تكن هذه السن حاجزا بيننا..
حققت رغبتي فتزوجتها في المدينة داخل المسجد النبوي ومن هنا أيقنت أنها تريد تحقيق الهدف الذي اجتمعنا عليه، وهو العطاء بلا حدود وبلا انتظار مقابل، وكان يتمثل هذا الهدف في جمعية محمود الخيرية الإسلامية التي كنت قد اتخذت قرارا بإنشائها منذ زمن بعيد، ولكنه لم يترجم بشكل صحيح إلا حينما ارتبطنا سوياً فأصبح هناك اتحاد بيننا. وكان لشقيقي مختار -الذي تولّى منصب محافظ الدقهلية- دور كبير في تأسيس الجمعية في بدايتها.. ومثلما تقدّمت إليها يوم المولد النبوي كنت أريد أن أتزوجها في أقدس بقاع الأرض.. وتحققت رغبتي فتزوجتها في المدينة داخل المسجد النبوي رغم أنني كنت أريد زواجها في مكة داخل الكعبة إلا أن هذا كان القدر. ثم واصل الحديث قائلا: "كنت أنا ثالث زوج لها، وكانت هي ثاني زوجة لي، وتذكرت في هذه اللحظة أن والدي أيضا كان ثالث زوج لأمي وعاش معها في حياة مستقرة وجميلة، وحدثت نفسي بأني سأنعم بنفس ما وصل إليه أبي رحمه الله من استقرار أسري، فقد كنت أعتقد أني شديد الشبه له في ملامحي الشكلية وفي حظي، وما شجعني للارتباط بها سريعا مسألة الدين ورغبتها في أن تفكر في نفس الهدف وتريد أن تكون معي شريكة هدف نصل إليه معاً، فقد كنت في أشد الاحتياج لمن يقف بجانبي ويشجعني على ما أقوم به في وقت كان ينتقدني الجميع في تصرفاتي، معتقدين أنني عندما أهب حياتي وأنفق أموالي في سبيل الله فإنني قد أصبت باضطراب عقلي". كنت أعلق على باب حجرتي لافتة مكتوبا عليها "التابوت" ووجدت أن هذه الإنسانة ستقف بجانبي، وعرفت أنه لا بد من إنسانة تشاركني في رحلة الحياة التي ستكون جافة دون امرأة، وهذا الزواج استمر أربع سنوات فقط، وكان الطلاق؛ لأنها لم تستطِع أن تثبت ما قالته واتفقنا عليه بأن نهب حياتنا لله، واكتشفت أنها إنسانة مثلها مثل باقي بنات حواء، كانت امرأة تريد أن تخرجني من الجنة.. تريد أن تعيش الحياة بما تحويها من نعم وفسح ورحلات للخارج قد اتفقنا أنها من المحذوفات من قاموسنا، وكانت حياتي قاسية جدا عليها فكيف تعيش معي في حجرة فوق سطح جامع. وهنا غرق مصطفى محمود في موجة من الضحك وهو يقول: لقد كنت أعلق على باب هذه الحجرة لافتة مكتوبا عليها "التابوت" يعني نعيش في مقبرة ولهذا لم تتحمل حياتي الميتة.. فالحياة أصبح لا معنى لها في نظرها، مع أنها كانت تعلم ذلك من البداية، بل بالعكس قالت إنها تحب بشدة هذه الحياة الدينية وحياة الزهد، ولكنها في النهاية امرأة عادية تريد أن تعيش زوجة لكاتب كبير. كانت تعتقد أنها متزوّجة من أحد الكتاب المعروفين، وتحلم بأن تقضي رحلاتها في باريس ولندن وأوروبا وتعيش حياة مرفهة، وليس في حجرة على سطح جامع مكتوب عليها "التابوت"، وطبعا كان لها أولادها من زوجيها السابقين ثلاثة أولاد كنت أعاملهم مثل أبنائي تماماً، وأحسست بعد مرور عام على زواجنا أن كلاً منا يدور في فلك مختلف تماما عن الآخر وأيقنت أن "زينب" نسيت الهدف الذي جمعنا سويا، ولم تعد تفكر فيه وتم الانفصال في عام 1984 وجاء قرار انفصالنا بعد فترة من التفكير من الطرفين وعن اتفاق، فقد كان انفصالنا مهذباً ومحترماً كما كان زواجنا، وقد حدث الانفصال بعد رحلة استجمام في سانت كاترين.
بعد الطلاق أصبح مذهبي في الحياة هو أن أقاوم ما أحب وأتحمّل ما أكره وكانت نتيجة الفشل الثاني في زواجه قرر أن يُسخر نفسه لرسالته وهدفه كداعية إسلامي ومؤلف وكاتب وأديب ومفكر عن اقتناع تام بأن هذا قدره، ومنذ هذا الحين ظل يعيش في جناح صغير بمسجده بالمركز الإسلامي، ثم انتقل إلى شقته بعد ذلك عندما اشتد المرض. وهنا يقول: "عرفت أنه من الصعب أن أجد الحب النادر مثل الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والسيدة خديجة رضي الله عنها التي أعطته نفسها ومالها وصحتها وعمرها بكل سعادة، وهذه نماذج نادرة بل نادراً ما يجد الإنسان شخصاً يفنى معه في الهدف، أياً كان فقد تلقيت دروساً طويلة وعميقة وعرفت حدود هذا الحب. ثم إن مشكلة المرأة أنها تستنزف منك شيئا غاليا جدا هذا الشيء اسمه الاهتمام وهذا أغلى ما يملك الإنسان؛ لأنه الطاقة النفسية البحتة، وحين تحب وتنشغل وتسهر فإن هذا الانشغال هو ضياع الهمة؛ لأن همتك تصبح حينئذ في المحبوب ويضيع منا أغلى ما نملك.. ويتابع: "ظل مذهبي منذ تلك اللحظة في الحياة هو أن أقاوم ما أحب وأتحمّل ما أكره باعتبار أن الحب الحقيقي الباقي هو حب الله سبحانه وتعالى أما الحب والهوى فهو خداع والذي جرب يعرف ذلك جيدا.. يسهر وينشغل. ولكن الآن طغت المادية بشكل كبير على العالم فعلى الرغم من أن باريس ولندن ونيويورك عواصم النور والحضارة إلا أنها تحوّلت إلى بلاد العلاقات الجنسية المنحلة والشذوذ والمخدرات والهيروين، فالرجل متزوّج وله أكثر من عشيقة وزوجته لها أكثر من عشيق، فقد سيطر الإحساس باللذة والمتعة على حياة الناس وأصبحت حياتهم نوعاً من الأخلاق القرودي، وتحولت حياتهم من الرقي والسمو إلى الانحلال والفجور". وأخيراً كنت أنظر إلى نفسي في المرآة وأدقق في النظر إلى ملامحي وبنياني وأقول: لماذا دائما تفشل علاقات الحب والزواج الموجودة في حياتي؟ لقد فشل الحب الأول "عديلة" في مهده وأنا صغير؛ بسبب ضعفي أمام مجموعة من الصبية، وهنا أتساءل: هل لأني كنت دائما أفضّل الفكر والعلم والدين على الحب؟!! وأجد الإجابة.. نعم كنت أفضل العلم والدين حتى على راحتي ونفسي فهذا هو الباقي وهذا هو الهدف الذي كنت دائماً أسعى إليه مهما كانت العواقب والتضحيات التي تبذل في سبيل ذلك الهدف السامي والنبيل. وينهي هذا الجزء قائلا: "لقد تزوّجت مرتين وفشلت في الزيجتين وربما تكون الزوجتان معذورتين؛ لأن لدى مشكلتين؛ فبجانب مسألة الطبيب والكاتب والفيلسوف والإعلامي والمفكر والمؤلف هناك أيضا أمر أصبح مشكلة في تلك الفترة، وهو أنني الذي أخطط لكل شيء في حياتي، لم أخطط أنني سأصبح في يوم من الأيام صاحب رسالة.. بالفعل أصبحت أحمل رسالة للجميع".
أقرأ أيضاً: مذكرات مصطفى محمود 8 و9.. خرجت بالبيجامة بعد زواج 10 سنوات!! مذكرات مصطفى محمود (7).. الأزهر لم يكفره وتعامل معه برقيّ مذكرات مصطفى محمود (6): "مجانية التعليم حوّلت الجامعات إلى كتاتيب!" مذكرات مصطفى محمود (5).. ناصر كان مصابا بجنون العظمة مذكرات مصطفى محمود (4).. كل إنسان يحمل الموت بداخله!! مذكرات مصطفى محمود (3).. عندما كفّنوني ووضعوني في النعش حيا مذكرات مصطفى محمود (2).. الوصول إلى اليقين يحتاج إلى جثة ب 50 قرش مذكرات مصطفى محمود (1).. رحلة الشك تبدأ من صرصار!!