كان الراحل عبد الوهاب مطاوع -رحمه الله- يصف موقف المتعصبين لمواقفهم وآرائهم من مخالفيهم بأنهم ينطبق عليهم المثل الإنجليزي "من أحبني أحب كلبي" وبيت الشعر العربي "وأحبها وتحبني وتحب ناقتها بعيري".. أي أنهم يربطون مواقفهم من الغير -من داخل تيارهم أو خارجه- بموقف هذا الغير من رؤيتهم، فإن وافقهم فهو في العين وعلى الرأس، وإن خالفهم فهو تحت الحذاء وفي مرمى السهام الضارية. وما مواقف المتعصبين من التيارين الإخواني (إخوان ومؤيديهم) والمدني (ليبرالي ويساري) ممن خالفوهم الرأي بشأن القرار الأخير للرئيس مرسي بإلغاء القرار -التنفيذي وليس القضائي- الصادر سابقا بحل البرلمان، إلا عينة بسيطة من هذا التعامل المختل مع الاختلاف في الرأي. يعارض هذا قرار د. مرسي فيحسبه المتعصبون من الإخوان وأشياعهم أنه موالٍ للعسكر ومعارض لنقل السلطة التشريعية للمدنيين، ويتفق ذاك مع القرار فيصنّفه المتطرفون من التيار المدني وأنصاره أنه "يبيع البلد للإخوان ويخون دماء الشهداء".. يخلطون بين الاختلاف في الوسيلة (القرار الرئاسي) والاختلاف في الغاية (نقل السلطة للمدنيين) فيوزعون بأمزجتهم صكوك الغفران وقرارات الإدانة.. فأي بغي هذا؟ يمكن للقارئ العزيز أن يراجع مواقف الجانبين ممن وافقوا القرار الرئاسي، مثل د. علاء الأسواني وبلال فضل وتميم البرغوثي والعبد لله -إن جاز لي وضع نفسي بين هذه القامات الفارهة- ومن رفضوا القرار من حيث الشكل لا المضمون، مثل د. عمرو حمزاوي ود. محمد البرادعي، وهما من هما وطنية وأمانة.. عاصفة من التسفيه لأصحاب الموافقة وإعصار من التخوين لأهل الرفض.. مع أن ليس كل من رفضوا معادين للثورة.. فعلى سبيل المثال، د.عمرو حمزاوي -أستاذي وصديقي الذي أختلف معه في رأيه- رفض من منطلق إيمانه بتحصين قرارات القضاء من التدخل التنفيذي.. أعترف أني أرى في رأيه مثالية مفرطة تفترض حياد الحكم القضائي بحل البرلمان، وهي مثالية يلمسها من تعامل بشكل شخصي مع د. حمزاوي، ولكن الرجل قالها صريحة، إنه ضد قيام المجلس العسكري بالمهام التشريعية التي ينبغي لسلطة مدنية مستقلة منتخبة القيام بها.. فأين موالاته للعسكر أو معاداته نقل السلطة للمدنيين من قوله هذا؟! وفي الجانب الآخر وافق د. علاء الأسواني -وهو أيضًا أستاذي وصديقي المحترم- القرار باعتبار موقفين: الأول يرى أن لا شرعية أعلى من شرعية مجلس انتخبه الشعب المصري والآخر يرى أن تأييد أو رفض هذا الموقف السياسي أو ذاك ينبغي أن يستقل عن الانتماء السياسي إلى صاحب القرار والموقف.. وهما موقفان أتفق معهما تمامًا.. فأنا أرى أني حين أقرر موقفي من رأي سياسي ينبغي أن يكون على أساس موضع هذا الرأي من الصواب أو الخطأ وفق المبادئ والأخلاقيات التي أؤمن بها، لا وفق "من صاحب هذا الرأي".. ورفض قرار الرئيس مرسي من منطلق أن الرئيس جاء من تيار الإخوان هو في رأيي تعصب لا أخلاقي ولا عقلاني.. فالأمور تُدرَس وتُناقَش بذواتها لا بذوات أصحابها. ليس موضوع هذا المقال الترويج لتأييد قرار الرئيس مرسي أو رفضه.. ولكن موضوعه هو التعصب المقيت للرأي الذي يقلب معايير الحق والباطل، ويحوّلنا إلى أتباع للمدرسة السوفسطائية التي تعتمد الهَوَى مقياسًا لسلامة المواقف والرؤى أو فسادها مع أن "آفة الرأي الهَوَى". منذ إصدار مرسي القرار تعرض الرافضون له لشتى أنواع العدوان اللفظي بل والبدني، كما حدث أول أمس لعدد من النشطاء من بعض المتعصبين للإخوان، وتساووا مع من انطلقت مواقفهم من تعصب للعسكر.. وحتى هؤلاء رغم إدانتي موقفهم من الثورة والصف الوطني فإني لا أجيز تعرض أي منهم للاعتداء البدني، وأفضّل مقارعتهم الحجة بالحجة والقول بالقول. كذلك تعرض المؤيدون للاتهام في ولائهم للثورة.. قيل عنهم كل ما يمكن أن يقال: باعوا البلد للإخوان.. نسوا مواقف الإخوان المخزية من الثوار خلال أحداث محمد محمود وشارع مجلس الوزراء.. يضيعون البلد ويسلمونها خالصة للمرشد... إلى آخر هذا الهراء. لو سمح لي القارئ العزيز أن أقدم نفسي مثالا.. أنا معادٍ لمواقف الإخوان منذ الأيام القليلة السابقة على استفتاء مارس 2011.. ويمكنه مراجعة مقالاتي السابقة التي نالهم فيها مني ما نالهم من تقريع ولوم وهجوم شرس لما أراه مشينا من مواقفهم.. ولكني أفعل ذلك لا من منطلق تعصب ضدهم أو عداء مقيم لهم، بل من منطلق تقييمي مواقفهم بغض النظر عن كونهم "هُم".. فإن أصابوا أيدتهم.. فهل في هذا بيع للوطن أو تخلٍ عن مواقفي السابقة منهم كما اتهمني البعض؟ كلا بالطبع.. فالمبادئ لا تتغير.. ولكنه ما ألزم نفسي به من إنصاف أو كما يقول الله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، أنا هنا لا أشخصن الموضوع ولكني أقدم تجربة خاصة أستدل بها على ما عاناه بعض الليبراليين واليساريين وأنصار الدولة المدنية الخالصة من هجوم من بعض أقرانهم. لا أنكر أن بعض من أيّدوا قرار د. مرسي إنما فعلوا من منطلق موافقتهم الآلية للإخوان في كل قول وفعل.. وهذا بالطبع من ضروب التعصب والانحياز المرفوض.. فالمفروض من أي عاقل تقييم أي موقف قبل اتخاذ القرار معه أو ضده.. وكذلك لا أنكر أن البعض ممن رفضوا القرار فورًا إنما نبع رفضهم من مبدأ عندهم في مخالفة الإخوان على طول الخط، وهو أيضًا موقف غير موضوعي يفتقر إلى العقلانية والأمانة لنفس الأسباب سالفة الذكر. إنني أعذر من يتشككون في مواقف الإخوان ويرون أنها ليست "لوجه الله والوطن".. أنا نفسي أفعل.. ولكن كيف للشك في نوايا -والنوايا من مكنونات الصدور- أن يفسد الموقف من مطلب وطني صريح "الشعب مصدر السلطات" وضرورة تأييد أي قرار يخدم هذا المطلب الذي تنص عليه دساتير الدول المتحضرة؟ كذلك أعذر غير المتشككين ممن يرون أن اتخاذ الرئيس القرار برد سلطة التشريع لمجلس الشعب المنتخب هو أمر بديهي.. ولكن ماذا يكون المتوقع ممن لفحتهم نار خذلان الإخوان لنا معشر الثوار خلال المواقف الثورية المختلفة وتطاول وسائل إعلامهم المطبوعة وعلى الإنترنت علينا بالتشويه؟ ما الحل إذن؟ هو كما أسلفتُ القول في تحييد المشاعر جانبًا ودراسة المواقف والأفعال وفق مبادئ الحق التي لا يختلف عليها اثنان.. مع التزام الحذر ومراقبة صاحب القرار -أعني الرئيس- لضمان حيادية مواقفه وقراراته وأنها تصب فقط في مصلحة الوطن. أما ما عدا ذلك من معايير الحكم على الأمور فسيغلب عليه التعصب.. وسيجد المتبع للاستقطابات نفسه يطالب الغير أن "يحب كلبه" ليتقبله أو "تحب ناقته بعيره" ليتفهمه.. وهو ما ينتقل بنا من الاختلاف السياسي الصحي إلى الشقاق الوطني المدمر.. ومن الاعتدال والاستقامة في تقييم الأمور إلى الشطط والميل في النظر إليها. فلنستقِم إذن.. يرحمنا الله.. ولا نتنازع فنفشل وتذهب ريحنا.. وليكن لدينا بعض الإحساس بالمسئولية الدافع إلى التفرقة بين من يختلفون معنا في الغاية (مصلحة مصر) وهم من ندينهم، ومن يتفقون معنا فيها ويختلفون في الوسيلة (موقف أو قرار أو رأي) وهم من علينا تقبلهم ومناقشتهم ما دمنا ندرك أننا بشر عاديون وأن الله تعالى وحده من لا يقول إلا صوابًا.