السنوسي محمد السنوسي بعض الناس عندهم قدرة عجيبة -أحسدهم عليها- على تصديق الإشاعات. بمجرد صدور الإشاعة من دول حتى تجدهم أول المؤمنين بها والمروجين لها، بل ويزيدون عليها بهارات وتوابل لتكون أكثر صدقا وأكثر رواجا وانتشارا. لدرجة أنني أظن أحيانا أنهم وضعوا أنفسهم بكل طواعية ورضا في خدمة خصمهم، وهم سعداء بتصديق إشاعاته وترويجها. وأظن ثانيا أن تحليل هذا الأمر يحتاج إلى خبير نفسي ليكشف لنا: ما السبب في، ليس فقط قابلية البعض لتصديق الإشاعات، بل تلهف البعض على البحث عن الإشاعات لتصديقها، وكأنه يقول للخصم: من فضلك اكذب عليّ وأنا هاصدقك، حتى إذا لم يجد إشاعة يقوم هو بفبركة إشاعة من عند نفسه ويصدقها ويروجها. طبعا هذا أمر مرتبط بالتطور الثقافي والفكري العام في المجتمع، فالمجتمع الأكثر قابلية للإشاعة أعتقد أنه يكون أقل من ناحية الارتقاء الثقافي الفكري والوعي بخطورة الإشاعة. الإشاعة هي سلاح لا يقل خطورة عن المدفع والرشاش، بل ربما تكون أخطر؛ لأنها تهدم الإنسان من الداخل وتزعزع ثقته في مبادئه وأفكاره ومعتقداته وتجعله يعمل لصالح أعدائه، سواء أدرك ذلك أم لم يدرك. والاستسلام للإشاعة يدل على أن هذا الإنسان ليس لديه ثقة كافية في نفسه وفيما يعتقده.. ولو أنه واثق تمام الثقة من ذلك لصمد كما تصمد الأشجار أمام الرياح العاتية ولا تكون حاله مثل الأوراق إذا هبّت رياح الخريف. ولعلنا نلاحظ هذا الكم الرهيب من الإشاعات التي انتشرت مؤخرًا، قبل وأثناء وبعد انتخابات الرئاسة، ولا أريد أن أذكرها حتى لا أساعد في ترويجها. وهذا مؤشر خطير؛ لأنه يدل على أن مجتمعنا ما زال في حالة سيولة فكرية وسياسة، بحيث إن أي كلمة من هنا أو من هناك "توديه وتجيبه"؛ كما يقال. وقد يكون استعمال الإشاعة أو الحرب الكلامية أمرا مفهوما في سياق عملية الانتخابات التي قد تصل إلى "تكسير العظام"؛ لأن كل طرف يحرص على زعزعة ثقة الجماهير في منافسه.. لكن هنا أمرا غريبا من زاويتين: الأولى: أن الإشاعات المنتشرة بحق طرف واحد تكون عكس بعضها، مثل أن يزعم أحد أن فلانا يتلقى أموالا من دولة كذا ودولة كذا، ثم نفاجأ أن هاتين الدولتين عَدوتان، وبينهما مطارق الحداد.. فكيف يكون الإنسان عميلا للشيء ونقيضه.. وخذ من هذا المثال كثيرا.. وهذا فضلا عن الإشاعات المتصلة بالعرض والشرف، وهذا بلا شك أمر مقزز.. وهذا أقل وصف لها. الزاوية الثانية: هي استعداد شرائح كبيرة من المجتمع على تصديق الإشاعة وبسرعة.. لدرجة أنني أحيانا أقف عاجزا عن مناقشة بعضهم في تهافت الإشاعة وكذبها، رغم أن ذلك أوضح من الشمس.. وليس ذلك إلا لأن عنده القابلية لتصديق الإشاعة وكأن طعمها حلو. هنا أتذكر القول المأثور عن الإمام علي كرم الله وجهه: لو جادلت عشرة من العلماء لغلبتهم، ولو جادلني جاهل واحد لغلبني. وأنا لا أنكر أن مصر تمر بحالة من مراجعة الأفكار والمفاهيم، واختبار صدقها وجديتها، وأن بعض الناس بسبب ذلك ما زال مترددًا بين كثير من الأفكار والأطروحات.. لكن الإنسان في النهاية عليه أن يكون لديه قناعات راسخة يعرض الإشاعات عليها ويحلل ويناقش ويخمن ويظن، ثم يرجِّح طبقا للثابت عنده وطبقا لما هو معقول مما هو معدوم. يجب ألا يترك الإنسان عقله ساحة فارغة لكل من هب ودب يغرس فيها ما يشاء من أفكار ومفاهيم.. فالحل هو في وجود "فِلتر" في العقل يغربل الأخبار التي تعرض أمام الإنسان. في مقابل ذلك يجب أن يتحلى المتنافسون على أي منصب بقدر كبير من المصداقية والمسئولية الوطنية، بحيث لا تدفعهم رغبتهم في الانتصار إلى توجيه الضربة القاضية للخصم بوسائل غير شريفة. فالشائعات لا تضر فقط الخصوم الذين تتوجه ضدهم، بل تضر أصحابها ولو بعد حين عندما يكتشف الناس كذبها وزيفها. وهي أيضا تضر الوطن لأنها تزرع الفتن بين أبنائه وقد تجعلهم ينتقلون من الخصومة السياسية إلى الخصومة الجنائية، لا قدر الله. فأي خسارة للوطن أعظم من ذلك؟!