[لماذا يمكن أن تكون نتائج الصندوق بعد الثورة نتائج غير ثورية؟] لماذا يمكن أن تكون نتائج الصندوق بعد الثورة نتائج غير ثورية؟ السنوسي محمد السنوسي من المعروف أن الثورات فعل استثنائي في حياة الشعوب، يعني مش كل سنة بتحصل ثورة عند شعب ما، بل هي حدث يقع كل فترة، قد تطول هذه الفترة أو تقصر حسب فاعلية الثورة وقدرتها على الاستمرار وعدم الانطفاء بسرعة، فالشعب الذي ينجح في أن يحتفظ بتوهج ثورته يظل مفعول الثورة مستمرا عقودا من الزمن.
أيضا من المعروف أن الثورة كشرارة ونقطة انطلاق ثم كحدث متتابع منظم حتى يسقط النظام الفاسد.. هذه الثورة لا يشارك فيها الغالبية العظمى من الشعب، بل ولا حتى نصف الشعب، إنما يقوم بالثورة نسبة قليلة العدد تقدر تقريبا بين 20 و25 % من مجموع الشعب.
هذه الفئة القليلة تنتدب نفسها للتحرك بفاعلية لإسقاط نظام اكتوى الجميع بناره وليس فقط من قاموا بالثورة، فمع أن المجتمع كله يكون واقعا تحت وطأة الفساد والقهر، إلا أنه ليس كل الشعب يقدر على تحريك نفسه ورفع الصوت عاليا والعمل في مجموعات تنظم هذا الغضب العام الحاصل في المجتمع.
ولذلك ما أن تبدأ هذه المجموعة القليلة العدد في التحرك باتجاه الثورة، حتى تكتسب كل يوم أرضية جديدة وأنصارًا يتضاعف عددهم كلما اقتنعوا أن هذه الفئة القليلة تعبر عن مطالب الشعب كله بصدق ومسئولية، وليست تعبر عن مطالب الفئة الثورية فقط.
فحين تتبنى الثورة مطالب عامة وتتحول إلى شعور غالب عند جماهير الشعب العريضة، تنجح في تحقيق أهدافها.
لكن تبقى مشكلة، هي أن معظم جماهير الشعب حتى تلك التي أيدت الثورة وساعدت في نجاحها، هي جماهير غير ثورية وليست قادرة على الاستمرار في الفعل الثوري وقتا طويلا، إنما يكون تأييدها للثورة أشبه بلحظة الإفاقة من الغيبوبة، سرعان ما تعود بعدها تدريجيا إلى نفس القناعات القديمة وربما أفظع.
وهنا يكون التحدي: كيف تحافظ القوى الثورية على الوهج الثوري، بينما الجماهير بطبيعتها غير ثورية؟
ويظهر هذا التحدي أكثر في مرحلة مثل التي نمر بها في مصر الآن، وهو أننا بصدد انتخابات، والانتخابات طبيعتها تحسمها الأعداد وليس بالضرورة القناعة الثورية، فمعنى هذا أنه -نظريا على الأقل- يمكن أن تأتي نتيجة الصناديق (مع أنها ديمقراطية مية في المية، مافيش شك) بنتائج غير ثورية.
فماذا يكون الحل ساعتها؟ قبل أن نتكلم عن الحل.. دعونا نسأل: لماذا يحدث هذا أصلا؟ أي لماذا يمكن أن تكون نتائج الصندوق بعد الثورة نتائج غير ثورية؟
الإجابة ببساطة: لأن الوضع الطبيعي بعد نجاح الثورة في إسقاط النظام الحاكم، هو أن تتسلم الثورة الحكم، وتبدأ فورا بالإضافة إلى العزل السياسي الحقيقي، في اتخاذ الإجراءات والقوانين التي تحول الشعارات الثورية إلى إجراءات يومية يشعر بها المواطن العادي، والذي عند ذلك يتحول ولاؤه السياسي والفكري إلى الثورة، حتى لو كان على الحياد أثناء فعاليات الثورة أو بعدها مباشرة، بل حتى لو كان ضدها من الأساس.
فحين يشعر المواطن أن الثورة جاءت لتحقق أهدافه هو ومصلحته هو وتطلعاته هو فإنه لن يتأخر في الانضمام إلى الثورة والدفاع عنها ويصبح ثوريا بأثر رجعي، لأن السياسة في النهاية هي إدارة المصالح وإشباع الحاجات، فما دام النظام الثوري الجديد قد حقق لي مصالحي وحاجاتي، فليس لي ذريعة لمعاداته أو الوقوف على الحياد تجاهه.
فإذا حدثت انتخابات بعد هذه المرحلة من تحويل الشعارات إلى برامج عملية وخطوات يومية على الأرض وليس قبلها، فإن تلك الانتخابات لن تفرز إلا خيارات ثورية مهما كانت متنوعة.. يعني ممكن نرى في هذه النتيجة أحزابا من الوسط واليمين واليسار، لكنها ستكون في مجملها قوى ثورية لا تمت إلى النظام القديم بصلة.
أما في حالة ثورتنا المصرية التي هي غريبة في كل شيء فهي لم يحصل فيها عزل سياسي حقيقي ولم تحكم أصلا رغم مرور سنة ونصف عليها، ولم يستطع البرلمان الذي أفرزته أن تكون له خطوات ملموسة على الأرض يشعر بها المواطن العادي، بسبب أن الحكومة غير متوافقة مع البرلمان وتعمل في ناحية والبرلمان في ناحية والمواطن العادي تائه بينهما.
بل الأكثر من ذلك أن حجم الجرائم والانفلات الأمني زاد بعد الثورة، فصار المواطن يشعر أن الثورة هي التي جلبت له الخوف والفزع والفقر، ولذلك توجد شرائح كبيرة غير متعاطفة مع الثورة رغم أنها أظهرت في البداية تجاوبا مع الثورة، لكن حين رأت أن الثورة معناها عمليا: الفوضى وغلاء الأسعار، أصبحت تشعر بالحنين إلى النظام القديم الذي ترى أنه رغم سوءاته لم يكن فيه هذا القدر المخيف من الانفلات على كل المستويات.
فإذا جاء الصندوق ليختار في هذه اللحظة الحرجة غير الطبيعية من عمر الوطن والثورة، وهي اللحظة التي لا تمت إلى الثورة بصلة وينبغي ألا تتحمل الثورة أخطاءها، بل هي بفعل فاعل معلوم ولكنه قوي وخفي.. هذا الصندوق في هذه اللحظة، قد لا تكون نتيجته نتيجة ثورية وقد ينقلب على الثورة، ليس بغضا في الثورة ولكنه بغض في واقع أليم يكتوي بناره، والثورة غير مسئولة عنه.
ولو أن عندنا نضجا سياسيا بدرجة كافية وعند شرائح كبيرة في العدد لكان الخيار الواجب والوحيد رغم ضغط اللحظة الراهنة هو المضي قدما إلى الإمام في طريق الثورة للقضاء على الانفلات الحاصل الآن، وليس أبدا الارتداد إلى الخلف هربا من المشكلات إلى المسكنات التي ستحصل بعدها تدريجيا مشكلات أفظع وأشرس.
هذا أمر مرتبط بالتحول الاجتماعي والثقافي الذي هو بالضرورة يحتاج إلى وقت أطول وجهد أشق من التحول السياسي.. وهو يرتبط كما أشرت بأن الثورة تقوم بها فئة قليلة، بينما الانتخابات تحكم نتيجتها الأعداد الكبيرة.
فإذا ظلت أهداف الثورة وقيم الثورة والوعي الثوري حكرا على أو منحصرا في هذه الفئة القليلة دون أن يمتد إلى الأعداد الكبيرة.. فإن النتيجة المؤلمة -لا قدر الله- هي أن نتيجة الصندوق ستكون في اتجاه، بينما الثورة في اتجاه مغاير.
وهنا تكون الخشية واجبة من مرحلة ما بعد نتائج الصندوق غير الثوري في لحظة فاصلة من الثورة.