السنوسي محمد السنوسي ساعات قليلة تفصلنا عن افتتاح أولى جلسات البرلمان الأول بعد الثورة، والأفضل في تاريخ مصر، على الأقل خلال ال60 سنة الماضية. لم تكُن الانتخابات التي أفرزت هذا البرلمان مثالية 100%، لا أحد يستطيع أن يزعم ذلك ولا الأعضاء الناجحون، غير أن ذلك لا يُقلّل أبدا من حجم الإنجاز الكبير الذي يقف خلف تشكيل هذا البرلمان الذي كان تكوينه أيام مبارك -ولو بنصف الصورة التي هو عليها الآن- نوعا من الخيال، وحُلما يُضاف إلى رابع المستحيلات. لكن -مع الأسف- البرلمان غابت عنه ثلاث فئات مهمة يمكن أن نسمّيها "مظاليم البرلمان"؛ وهي: شباب الثورة، والأقباط، والمرأة.. صحيح أن البرلمان به من ينتمي إلى هذه الفئات الثلاثة، ولكني أقصد أن تمثيلها الحالي لا يعكس أبدا وجودها الحقيقي على أرض الواقع. تُرى ما السبب؟! وهل من المنطقي أن تغيب هذه الفئات الثلاثة عن أول برلمان بعد الثورة، وهي التي كان لها دور في إشعال الثورة وإنجاحها؟! وأين يوجد الخلل في الأحزاب التي يعتبر البعض أنها قفزت على الثورة وقطفت ثمارها، أم في الشعب الذي يرى آخرون أنه لم ينضج فكريّا بالدرجة التي تجعله يتقبّل هذه الفئات ويفسح لها مكانا متقدما في التمثيل السياسي؟! من المهم أن نشير إلى أنه توجد أسباب مشتركة وراء عدم تمثيل هذه الفئات الثلاثة، كما توجد أسباب خاصة وراء غياب كل فئة منها. وإذا كان الشائع أن "الأحزاب" هي السبب في عدم تمثيل هذه الفئات بدرجة معقولة في البرلمان، بدليل أنه حتى الإخوان -الذين لهم قاعدة شعبية عريضة- لم يُرشّحوا عددا كبيرا من الشباب أو من المرأة، بل وضعوا المرأة في مكان متأخر في القوائم؛ بحيث بدا الأمر وكأنه "سد خانة". فإني على العكس من ذلك، أتفق مع مَن يرى أن العيب يتمثّل بالدرجة الأولى في "الشعب" نفسه؛ فهو في عمومه ما زال يرفض أن يمثّله أي من هذه الفئات، ولذلك فالأحزاب تجد نفسها في النهاية مضطرّة لأن ترشّح شخصا يحظى بأغلبية تُمكّنه من النجاح في السباق الانتخابي، وليس من المعقول أن تسمّي الأحزاب مرشحا لمجرد أنه شاب أو قبطي أو امرأة، ثم تفاجأ برسوبه. لماذا أتناول هذا الموضوع؟ لأن البعض يريد أن يجعل من عدم وجود نسبة معقولة من الشباب في أول برلمان بعد الثورة، دليلا على فشل الثورة أو على انتهازية الأحزاب التي يقولون إنها قطفت نتائج الثورة؟! أو ذريعةً ليقلّل من الإنجاز الحاصل وراء تكوين البرلمان ولعدم إضفاء شرعية كبيرة عليه؛ باعتباره في رأيهم لا يمثّل برلمان الثورة. والبعض الآخر يقول إن الثورة لم تُغيّر من وضع الأقباط شيئا؛ بدليل عدم تمكّنهم من دخول البرلمان بنسبة معقولة، وقد كان لهم دور مشهود -على مستوى الأفراد لا الكنيسة- في الثورة، ونفس الكلام يقال بالنسبة للمرأة. ولهؤلاء أقول: أنا أوافقكم في المقدّمات، لكني أختلف معكم في النتائج؛ بمعنى أنه أمر مؤسف حقا أن يغيب الشباب أو الأقباط أو المرأة عن أول برلمان بعد الثورة، لكن هذا لا يعني بحال من الأحوال أن الثورة فشلت أو سرقها آخرون. لماذا؟! لأن نجاح الثورة في إسقاط النظام البائد لا يعني أنها تستطيع في يوم وليلة أن تغيّر مفاهيم الناس ولا سلوكياتهم؛ فهذا أمر يستغرق سنوات وسنوات، وليس فقط يحصل بمجرد بقيام الثورة. التغيير السياسي شيء، والتغيير الاجتماعي شيء آخر.. وإذا كان إسقاط النظام السياسي يتمّ في أيام أو شهور؛ فإن إقامة النظام الاجتماعي العادل والذي تتكافأ في الفرص على أساس الكفاءة والمهنية، يحتاج إلى سنوات وإلى أضعاف الجهد الذي يُبذَل لإسقاط النظام السياسي. والنتيجة التي خَلُص إليها من يزعمون فشل الثورة بسبب غياب الشباب والمرأة والأقباط عن البرلمان؛ أتت من الخلط بين التغيير السياسي والتغيير الاجتماعي. إن نجاح التغيير السياسي يعني فقط مجرد إعطاء إشارة البدء للتغيير الاجتماعي، وفتح المجال أمامه وليس الانتهاء منه؛ يعني أننا في اللحظة التي نزيح فيها نظاما سياسيا نكون يادوب بنبدأ التغيير الاجتماعي؛ فالعملية عايزة نَفَسا طويلا وجهدا أكبر بدلا من توزيع الاتهامات، وظلم الثورة، وتسويد الصورة، والتقليل من شأن البرلمان المنتخَب. ولكني أُنبّه إلى شيء مهم، وهو أنه إذا كان من اللازم الآن بالنسبة للأحزاب أن ترشّح من يحظى بالشعبية المطلوبة، مما يعني أن تبعد عن الشباب والمرأة والأقباط؛ فإن هذا لا يُبرّر أن يكون هذا السلوك سياسة دائمة للأحزاب فيما بعد، بل يجب عليها من الآن أن تعمل على الارتقاء بالوعي الاجتماعي، وليس مسايرته، وأن تُسند مهام ومناصب لهذه الفئات الأساسية في المجتمع بطريقة تصاعدية؛ حتى تُكوّن لهم شعبية وسط الجماهير، وتجعلهم مقنعين للناس في خطابهم وقدراتهم. وإلا فستجد الأحزاب نفسها مضطرة للوقوع في الخطأ نفسه مرة أخرى في الدورة القادمة وتبتعد عن الشباب والأقباط والمرأة، بما يعني استمرار حرمان المجتمع من طاقات فاعلة به، وهو أمر لا شك يؤخّر التطور الفكري والاجتماعي والحضاري المطلوب لنهضة المجتمع. وفي المقابل، على هذه الفئات الثلاثة لا سيما شباب الثورة أن يؤمنوا بالتدرج في الإصلاح خاصة على المستوى الاجتماعي،وبدلا من الشكوى من سلوك الجماهير، عليهم أن يطرحوا أنفسهم للرأي العام لا أن ينعزلوا عنه ويستهينوا به، وأن يحاولوا التغلب على هذه التحدي الذي ليس مستحيلا، ويدركوا أن نجاح الثورة لا يعني بالضرورة أن يكون من أشعلها في المناصب العليا ومقاعد القيادة، إنما النجاح الحقيقي هو نجاح الأهداف وليس نجاح الأشخاص. يا سادة يا "مظاليم البرلمان"؛ إنْ فاتتكم الفرصة الآن فإنها باقية في الأيام المقبلة، واللي جاي أكتر من اللي رايح، لكن المسألة مسألة نَفَس طويل وإخلاص للوطن وللأفكار والمبادئ.