دعوت للثورة وأنا دون السابعة.. ذهبت ذات صباح إلى مدرستي الأولية محروساً بالخادمة، سرت كمن يساق إلى سجن، بيدي كراسة وفي عيني كآبة وفي قلبي حنين للفوضى، والهواء البارد يلسع ساقيّ شبه العاريتين تحت بنطلوني القصير.. وجدنا المدرسة مغلقة والفرّاش يقول بصوت جهير: - بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم أيضاً. غمرتني موجة من الفرح طارت بي إلى شاطئ السعادة ومن صميم قلبي دعوت الله أن تدوم الثورة إلى الأبد! الهجر: لم أشعر بأنه مات حقاً إلا في مأتمه، شغلت المقاعد بالمعزين وتتابعت تلاوة القرآن الكريم، وانهمك كل متجاورَيْن في حديث فذكرت حوادث لا حصر لها. إلا الراحل فلم يذكره أحد، حقاً لقد غادرت الدنيا أيها العزيز كما أنها قد غادرتك.
الحنين: كنت ألقاه في الخلاء وحيداً يحاور الناي ويعزف لجلال الكون قلت له يوماً: - ما أجدر أن يسمع الناس ألحانك. فقال بامتعاض: - إنهم منهمكون في الشجار والبكاء! فقلت مشجعاً: - لكل امرئ ساعة يحن فيها إلى الخلاء. الضيف: قال الشيخ عبد ربه التائه: كان بيتنا عامراً بالأحباب. وذات يوم نزل بنا ضيف لم أره من قبل. وحرصاً على راحته أرسلني أبي لألعب بعيداً. ولما رجعت وجدت البيت خالياً فلا أثر للضيف ولا للأحباب. دعابة الذاكرة: رأيت شخصاً هائلاً ذا بطن تسع المحيط، وفم يبلع الفيل، فسألته في ذهول: - من أنت يا سيدي؟ فأجاب باستغراب: - أنا النسيان فكيف نسيتني؟ ملخص التاريخ: أحببت أول ما أحببت وأنا طفل، ولهوت بزمني حتى لاح الموت في الأفق، وفي مطلع الشباب عرفت الحب الخالد الذي يخلفه الحبيب الفاني، وغرقت في خضم الحياة، ورحل الحبيب واحترقت الذكريات تحت شمس الظهيرة، وأرشدني مرشد في أعماقي إلى الطريق الذهبي المفروش بالمعاناة والمفضي إلى الأهداف المراوغة، فطوراً يلوح السيد الكامل وطوراً يتراءى الحبيب الراحل. وتبين لي أن بيني وبين الموت عتاباً ولكنني مقضي عليّ بالأمل. الكذب الصادق: قال الشيخ عبد ربه التائه: بعض أكاذيب الحياة تنفجر صدقاً. الحب المتبادل: قال الشيخ عبد ربه التائه: إنهما اثنان، بقوته خلق الأول الآخر، وبضعفه خلق الآخر الأول. العقل: قال الشيخ عبد ربه التائه: لقد فتح باب اللانهاية عندما قال: "أفلا تعقلون". الخلود: قال الشيخ عبد ربه التائه: وقفت أمام المقام الشريف أسأل الله الصحة وطول العمر، دنا مني متسول عجوز مهلهل الثوب وسألني: "هل تتمنى طول العمر حقاً". فقلت بإيجاز من لا يود الحديث معه: - ومن ذا الذي لا يتمنى ذلك؟ فقدم لي حُقاً صغيراً مغلقاً وقال: - إليك طعم الخلود، لن يكابد الموت من يذوقه! فابتسمت باستهانة فقال: - لقد تناولته منذ آلاف السنين وما زلت أنوء بحمل أعباء الحياة جيلاً بعد جيل.. فغمغمت هازلاً: - يا لك من رجل سعيد! فقال بوجوم: - هذا قول من لم يعانِ كر العصور وتعاقب الأحوال ونمو المعارف ورحيل الأحبة ودفن الأحفاد. فتساءلت مجاريا خياله الغريب - ترى من تكون في رجال الدهر؟ فأجاب بأسي: - كنت سيد الوجود، ألم تر تمثالي العظيم؟، ومع شروق كل شمس أبكي أيامي الضائعة وبلداني الذاهبة. وألهتي الغائبة! السمع والطاعة: قال الشيخ عبد ربه التائه: قلت له بخشوع وعيناي لا تفارقان طلعته: - لم أر أحداً في مثل بهائك من قبل. فقال باسماً: - الفضل لله رب العالمين. - أريد أن أعرف من تكون يا سيدي. فقال بهدوء وكأنه يتذكر: - أنا الذي كان يوقظك من النوم قبل شروق الشمس. أصغيت باهتمام، فواصل: - أنا الذي ناصرتك على الكسل فانطلقت مع العمل.. فكرت بعمق فيما قال واستمر هو: - أنا الذي أغراك بحب المعرفة. فهتفت: - نعم.. نعم - وجمال الوجود أنا الذي أرشدتك إلى منابعه - إني مدين لك إلى الأبد. وساد صمت متوتر، وشعرت بأنه جاء يطالبني بشيء فقلت: - إني طوع أمرك. فقال بهدوء شديد: - غبت لأضع فوق عملي نقطة الكمال حزن الحياة: سئل الشيخ عبد ربه التائه: هل تحزن الحياة على أحد؟ فأجاب: نعم.. إذا كان من عشاقها المخلصين.. طبيعتنا: قلت مرة للشيخ عبد ربه التائه: قد أرحّب بتعب عام متصل، ولكني أضيق بعطلة شهر واحد، فقال: طبعنا على حب الحياة وكره الموت. تعريف: سألت الشيخ عبد ربه: - ما علامة الكفر؟ فأجاب دون تردد: - الضجر على وشك الهروب: حدث الشيخ عبد ربه التائه قال: - أغرتني نشوة الطرب ذات مرة بالتمادي في الطرب حتى طمعت أن أبعث من الطرب الأصغر إلى الطرب الأكبر، وسألت الله أن يكرمني بحسن الختام، عند ذلك همس في أذني صوت: "لا بارك في الهاربين". خفقة قلب: قال عبد ربه التائه: ما بين كشف النقاب عن وجه العروس وإسداله على جثتها إلا لحظة مثل خفقة قلب. الحركة: قال الشيخ عبد ربه التائه: جاءني قوم وقالوا إنهم قرروا التوقف حتى يعرفوا معنى الحياة، فقلت لهم: تحركوا دون إبطاء، فالمعنى كامن في الحركة. في الحظيرة: قال الشيخ عبد ربه التائه: حلمت بأنني واقف في حظيرة أغنام مترامية الأطراف، وكانت تأكل وتشرب وتتبادل الحب في طمأنينة وسلام، تمنيت أن أكون أحدها، فكنت جدياً بالغ القوة والجمال، ويوما جاء صاحب الحظيرة يتبعه الجزار حاملاً سكينه. انتهاء المحنة: سألت الشيخ عبد ربه التائه: - كيف تنتهي المحنة التي نعانيها؟ فأجاب: - إن خرجنا سالمين فهي الرحمة، وإن خرجنا هالكين فهو العدل. السرعة: قال الشيخ عبد ربه التائه: ما نكاد نفرغ من إعداد المنزل حتى يترامى إلينا لحن الرحيل.. الدنيا والاخرة: قال الشيخ عبد ربه التائه: إذا أحببت الدنيا بصدق أحبتك الآخرة بجدارة.