في الجزء السادس لمذكرات الدكتور مصطفى محمود والتي تنشرها المصري اليوم يستكمل تفاصيل علاقته تلك بالرئيس عبد الناصر، والتي كانت في مجملها متوترة بسبب آرائه في النظام؛ فإلى جانب أنه رأى في عبد الناصر -في الحلقة الخامسة- أنه ديكتاتور قام بتحرير المصريين كي يستعبدهم، ووصف فترة الحكم بصفة عامة بأنها كانت مقبرة للمفكرين، ولم تكن الكلمة تصل فيها بشكل صحيح على الإطلاق؛ بل كانت تصل مزيفة، كما وصل نصر مزيف في 1967.
يا ويل من يغضب عليه هيكل في هذا الجزء مصطفى محمود يتابع الحديث عن أيام العزلة.. أيام النفي ويتذكر أيام شبابه فيقول: كانت أيام الشباب مليئة بالحيوية والصراع والمنافسة، التي ربما كانت تغضبني كثيراً؛ ولكنها كانت أياماً جميلة مرت كالنسيم في ظلمات ليال صيفية بديعة ثم ابتسم قائلاً.. وكانت هذه الأيام أيضاً جميلة بالنسبة لهيكل.. التي تبدلت بعد ذلك في عهد السادات إلى أيام صعبة بالنسبة له انتهت باعتقاله.. وهنا عليك أن تقف قليلا قبل قراءة السطور التالية؛ فمصطفى محمود على وشك أن يبدأ في الحديث عن هيكل وعلاقته الخاصة جدا بعبد الناصر، والتي كان لها أبلغ الأثر على مصطفى محمود، عندما شرع في كتابة مقالات تنتقد عبد الناصر والنظام بشكل عام؛ فالأمر لم يعد بالنسبة لمصطفى محمود مجرد آراء متناثرة هنا وهناك يلقيها على الأصدقاء في الجلسات التي تجمعه بهم؛ بل سيكتبها في مقالات تنشر في الصحف ويقرؤها الجميع. برغم تحذير صديق له بعدم نشر هذه المقالات والسبب كما يقول هو: "هيكل كان الصحفي الوحيد المقرب لجمال عبد الناصر فيثق فيه ويستمع إليه، وكان منتشراً بين جميع الصحفيين والكتاب والمفكرين سواء كانوا صغاراً أو كباراً أنه (يا ويل من يغضب عليه هيكل)، وأرجح أن غضب هيكل قد أصابني، وكان سبباً في حرماني من الكتابة عاماً كاملاً؛ فبعد أن كتبت مقالتين حملتا عناوين "هتلر والنازية" و"الخروج من مستنقع الاشتراكية"، وقبل أن أنشرهما قال لي أحد الأصدقاء: "المقالتان ستثيران غضب هيكل الذي لن ينسى أو يسهو أن ينقل غضبه لعبد الناصر وأنت تعلم مدى انصياع عبد الناصر له وثقته فيه"؛ ولكنني أصررت على نشرهما في "روزاليوسف". عبد الناصر لم تكن له حسنات تذكر وبالطبع لك أن تتوقع ما سيحدث لمصطفى محمود، فالنتيجة كانت كما قال: "في البداية صودرت أعداد روزاليوسف من الأسواق، وخرج قرار إيقافي عن الكتابة، وكان المضحك أنه غير مسبب بمعنى "لم يصاحبه بشكل واضح سبب قرار الإيقاف"؛ ولكني بالطبع كنت أعلم سبب الإيقاف، وقام بإبلاغي قرار الإيقاف، كما ذكرت من قبل إحسان عبدالقدوس". كل هذا ببساطة لأن: "المقالتان تضمنتا هجوماً عنيفاً ضد عبدالناصر، والذي لم تكن له حسنات تذكر على الإطلاق؛ فمن البداية استولى على قيادة الثورة ونشر العمل المخابراتي في جميع أرجاء مصر؛ فأصبح الجميع يكتبون تقارير سرية في بعضهم البعض، وأصبح داخل كل أسرة شخص منها يتجسس عليها ويرفع التقارير إلى القيادات؛ فهذا بمنتهى البساطة وصفي لعهد عبدالناصر". وهنا من حقك أن تقرأ ما تضمنته هاتان المقالتان من نقد عنيف لعبدالناصر، وتسببتا في حرمانه عاماً كاملاً من الكتابة؛ ولكن بعد أن قام بتعديلهما (وذلك لكي تشمل المقالتان العهد الناصري بكامله وما ترتب عليه، وأضاف لهما الأحداث الزمنية الجديدة)؛ وخصوصا أنه قام بنشرهما مرة أخرى بعد موت عبدالناصر أيام السادات وفي وسط الثمانينيات. وفيما يلي مقتطفات من المقالتين: الفساد ما ولد إلا في حكم عبدالناصر المقالة الأولى حملت عنوان "سقوط اليسار": في مصر تركة من الأخطاء القاتلة لابد من مواجهتها في جرأة: مجانية التعليم الجامعي التي حوّلت الجامعات إلى مجموعة كتاتيب لا تعليم فيها ولا تربية ولا حتى مجانية، وأضعف الإيمان أن يحرم الطالب الراسب من هذه المجانية، وأن يدفع تكاليف تعاليمه؛ وإلا كان حالنا من يمول الفشل والرسوب والإهمال من الخزانة العامة. - يقولون إن عبدالناصر ليس مسؤولاً عن الفساد والتدمير والإهمال والرشوة والخراب الذي وصل بنا إلى ما نحن فيه، وهم يعلمون جيداً أن الفساد ما ولد إلا في حكم عبدالناصر الذي غابت فيه الحرية، وقطعت الألسن، وقصفت الأقلام، وسادت مبادئ النفاق والانتهازية، وحكمت مراكز القوى، وانطلقت عصابة القتل تعيث في الأرض فساداً، وما ولد الإرهاب الذي نعاني منه اليوم إلا في زنازين التعذيب في السجن الحربي بأمر وإشراف عبدالناصر؛ فقد تسبب عبدالناصر وحكمه في هزيمة منكرة وأرض محتلة، ومصر صغيرة أصغر مما ورثها عبدالناصر بمقدار سيناء وبمقدار حجم السودان كله. فاتورة الخوف المتراكمة دفعها عبد الناصر في 1967 المقالة الثانية: حملت عنوان "الخروج من مستنقع الاشتراكية" والتي قال فيها... - لم تكن الاشتراكية العلمية إلا المحض الخبيث الذي خرجت منه هذه السلالة من السفاحين من لينين إلى ستالين إلى تشاوتشيسكو الذين حوّلوا أوروبا الشرقية إلى زنزانة وسجن وساحة إرهاب وميدان للرعب تقطع فيه الألسن وتقصف الأقلام ولم تكن الاشتراكية العلمية اشتراكية، ولم تكن علمية؛ وإنما كانت تلفيقاً فلسفياً ومكراً يهودياً صنعه ماركس وجر به العالم إلى حمامات دم. - لقد رفع أجدادنا أهرامات بدون حديد وبدون مسلح، وبقيت على الزمان خمسة آلاف عام، ونحن نرفع عمارات من الأسمنت والخرسانة والمسلح لتقع منهارة بعد شهور من بنائها، والفرق الوحيد هو هذا الشيء روح الجد عندهم.. وروح اللعب والعبث عندنا. إن العمر قصير والإنسان لم يولد ليعيش عبثاً ويموت عبثاً، ويجب أن نعمل شيئاً في حياتنا.. وهناك شيء في الذوق العام وفي الفهم وفي الوعي وفي الإدراك يجب أن يتغير، وعلينا أن نجدول أولوياتنا من جديد؛ بحيث يكون العمل الجاد في البند الأول واللعب في البند الأخير.