في أعقاب خروج الجمهورية الفرنسية من مخاض الثورة التي قامت بها عام 1789 وتخلّصها من عصور من الملكية المظلمة التي تجلّت أبرز صور ديكتاتوريتها في سجن "الباستيل" الذي كان من أهم منجزات الثورة هو التخلّص منه تماما، بدأ التفكير في الخطوات القادمة؛ فقد نجحت الثورة وحان وقت التفكير فيما هو قادم ألا وهو اتجاه هذه الثورة. لم تتوصّل فرنسا في أعقاب ثورتها مباشرة إلى صياغة دستور كامل متكامل، بل اكتفوا في البداية بإعلان دستوري صدر في أغسطس عام 1789؛ أي بعد قيام الثورة بأشهر وجاء باسم "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" وأصدرته الجمعية التأسيسية الوطنية، وقد تأثّر الفرنسيون في كثير من بنوده بالاتحاد الذي كان قد حقّقه الأمريكيون قبلها بسنوات. ولمن لا يعرف فالجمعية التأسيسية الوطنية هي عبارة عن كيان تمّ تكوينه في يونيو 1789 في أعقاب قيام الثورة ليكون بمثابة مجلس قيادة انتقالي، لنقل السلطة من السلطة الملكية التي كانت متحكّمة في الأمور وقتها حتى الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور الفرنسي. لقد كان إعلان "حقوق الإنسان والمواطن" بمثابة نواة للدستور الذي تمّ تأسيسه فيما بعد في 1791، وقد تأثّر هذا الإعلان في كثير من بنوده بالأفكار التي كان ينادي بها فلاسفة فرنسا؛ مثل: جان جاك روسو وجون لوك فولتير ومونتيسكيو، وجاءت أهم بنوده كالتالي: الانتقال من الحكم الملكي المطلق إلى حكم ملكي دستوري تحدد فيه سلطات ملك البلاد، وصلاحياته التي كان من أهمها على سبيل المثال حق النقض (فيتو) على قرارات الجمعية التشريعية الفرنسية التي سيتمّ تأسيسها فيما بعد؛ وذلك خوفا من أن يحكموا البلاد من منطلق أهوائهم ومصالحهم الشخصية، وهو (أي حق النقض) ما تمّ إلغاؤه فيما بعد في دستور 1791 بعد فشل الفكرة. كان من بين بنود الإعلان الدستوري أيضا أن الأمة هي مصدر السلطات وليس الله مصدر سلطات الملك حسب ما كان في دستور فرنسا الأول. جاء بالإعلان أيضا أن جميع الأفراد متساوون في الحقوق والواجبات وفرص العمل وغيره، وكان في الماضي يتمّ تمييز النبلاء وأعضاء الكنيسة. كما تمّ إلغاء كل المؤسسات الفرنسية التي كان وجودها بمثابة إهانة لحرية المواطن الفرنسي؛ مثل سجن الباستيل الذي كان يستعين به الملك كوسيلة لقمع خصومه السياسيين، كما تم مصادرة أملاك الكنيسة التي اقتطعتها بالأساس من الفلاحين، ونفس الأمر مع طبقة النبلاء، وتمّ إلغاء مجلس طبقات الأمة الذي كان يمثّل فيه 300 من النبلاء (يمثّلون صوتا) و 300 من رجال الدين (يمثلون صوتا)، و 600 من الفلاحين وأصحاب الحرف (يمثّلون صوتا). وأثبتت الجمعية الوطنية الفرنسية وجودها في الإعلان الدستوري من خلال التعريف بها، وإقرار شرعيتها من خلال مواده. أصبحت أيضا الجمعية الوطنية هي الكيان التشريعي لفرنسا فيما كان الملك ووزراؤه الملكيون بمثابة الجناح التنفيذي، وأصبحت السلطة القضائية مستقلة عن كليهما. أخيرا يعيب على الإعلان الدستوري أنه كان يميّز بين المواطنين الفاعلين والمساهمين في الناتج القومي وبين الفقراء السلبيين ولم يكن يعترف بحقوق المرأة. وقد واجه الإعلان الدستوري اعتراضات كثيرة وانتقادات بالغة؛ حيث انتقد الكاتب الأمريكي كيث بيكر ذلك الإعلان الدستوري، مؤكّدا أن أي بلد تقوم فيه ثورة إما أنه يقوم بتعديل الدستور الموجود بالأساس بالشكل الذي ترتئيه أو أنه يقوم بكتابة دستور جديد تماما، ولكن الجمعية الوطنية الفرنسية أرادت أن تنشئ نظاما اجتماعيا وتشريعيا مفصّلا على مقاسها من خلال الاعتراف بشرعيتها في الإعلان الدستوري، والإبقاء على النظام الملكي ولكن في إطار دستوري، مع إيجاد سُلطة تشريعية وقضائية مستقلّة في الوقت نفسه، وبالتالي لم تكُن فرنسا لا ملكية خالصة ولا جمهورية خالصة. وفي الحلقة القادمة نعرض بشكل أكثر تفصيلا دستور 1791، وأهم سلبياته وإيجابياته وعلاقته بسلطات الدولة... فتابعونا،،،