كان اليوم هادئاً، لم يحدث فيه ما يشي بأنه سيكون يوما عنيفا، بأنه سيكون يوما مخضبا بلون الدماء، مباراة كرة قدم عادية جدا بين الأهلي والمصري انتهت بفوز الأخير على غير العادة، ورغم أن شغب جمهور المصري لم يكن أمرا مفهوما أو مبررا فإنه في النهاية معتاد في مدن القناة، وتحديدا فيما يتعلق بالأهلي، ولم أتخيل أن الأمر سيتعدى بعض إصابات هنا وهناك بعد اقتحام الجماهير لأرض الملعب. اتصلت بمراسل محافظة بورسعيد لأعرف منه عدد الإصابات -لاحظوا أنني حتى هذه اللحظة لم أتخيل أن هناك أرواحا صعدت لبارئها- فإذ به يصرخ كسيدة ريفية فقدت وحيدها: "إصابات إيه؟ أني واقف وسط عشرين جثة والحكيمة بتقول لي العدد جوا الضعف"، وضعت السماعة برفق ناتج عن صدمة أرخت كل مفاصلي، أبلغتهم الخبر في صالة التحرير، فألجمت ألسنتهم داخل أفواههم، ومنهم من طلب مني التأكد أكثر من 3 مرات من المراسل؛ حتى أتأكد أنه لم يصب بحالة هذيان أو ما شابه. تأكد الخبر.. وزارة الصحة هرعت لإرسال البيانات الرسمية بأعداد الجثث، فجثة واحدة في البداية ثم 25 ثم 40 ثم 67 ثم 74 ثم 72 بعد تصحيح الرقم، بدأت تتوافد الاستغاثات الهاتفية في البرامج من أسر المشجعين، ومن الطاقم الفني للأهلي الذي أكد أنهم لقنوا الشهادة لعشرات من مشجعي الأهلي الذين قضوا بغرفة خلع الملابس، بعد أن قفزوا من المدرجات لحماية لاعبي الأهلي من اعتداءات جماهير المصري. تحوّل فيس بوك وقتها لسرادق عزاء إلكتروني كبير، خيّم فيه السواد على بروفايلات الجميع، البكاء والصراخ والعويل بات محسوسا من كلمات كثيرين، ممن كانت الصدمة فوق احتمالهم وفوق احتمال أي بشر في واقع الأمر، بدأت تظهر صور الضحايا الذين تأكدت وفاتهم ومنهم أنس، ذلك الطفل الضاحك الذي لم يتعد عمره السادسة عشرة، ذلك الطفل الذي كتب وصيته بأنامله قبل وفاته، ذلك الطفل الذي لم يُعطَ الفرصة لدخول الجامعة ويحب ويتحب ويتزوج وينجب أطفالا ويجرب ما جرّبه كثيرون. اتصلت بزميلة لي في العمل في اليوم التالي كنت أعرف أن أخاها في بورسعيد، فأخبرتني بأنه عاد مصابا ولكنه على قيد الحياة، ولكنه لم يعد يصلح لأي شيء، بعد أن سافر بصحبة 7 من أصدقائه وعاد وحده، ولا يعرف كيف سيحضر عزاءهم جميعا في نفس اليوم. في اليوم التالي بدأت صور المأساة تظهر، فكانت الأبواب الحديدية الملحومة من الخارج؛ حتى لا يتمكن أحد من الخروج من تلك المذبحة البشرية التي كان مقصودا بها الجمهور بأكمله، وتلك صورة أخرى لأكثر من ألف من جمهور الأهلي في مساحة ضيقة لا تتعدى 35 مترا يحاولون الخروج قبل أن يدركهم الموت الذي يسير على قدمين، يحاولون الهروب من ذلك الجحيم المستعر الذي نصب لهم في المدرجات، فإما أن يخرج أو يلقى به من الدور الرابع أو تكسر رقبته أو يُخنق بالكوفيه أو يموت طعنا بسنجة، وقد كان لديهم أمل في ألا يموتوا، ولكنهم ماتوا بينما يحاولون أن ينجوا. لا مجال اليوم للفلسفة والتحليل والتنظير، الأمر أكبر من أن نحلله، لقد فُقد أكثر من 72 روحا في نصف ساعة، في نصف ساعة فقط، أكبر عملية تصفية تشهدها مصر منذ عقود، وبحق من؟ بحق ورود لم تتفتح، بحق أطفال وشباب لم يلوّث نقاء قلوبهم شيء. لا أتصور شعور أمّ أعطت لصغيرها مصروفا كي يذهب "لينبسط" ويعود لها جثة، صغيرها الذي كانت تتمنى أن ترى حفيده يوما، عاد لها ملفوفا في علم بنعش، صغيرها الذي لم يتوقف يوما عن إثارة الضجيج والحياة داخل بيتهم الصغير أصبح رقما من ضمن أرقام كثيرة تعلن عنها وزارة الصحة، لم تملك أن تفعل شيئا سوى أن ترفض قبول الجثة، وعادت إلى الشرفة في انتظار عودة صغيرها وبقيت هكذا لأيام، وكلما يحاول أحد أن يقنعها بأن صغيرها لن يعود ترفض أن تصدّق وتقول بتصميم: "ابني راجع.. ابني لسه صغير على الموت". أتوقف كثيرا وأحاول أن أعيد التفكير في مسائل وأمور كثيرة، ومن بينها الكتابة في حد ذاتها، لماذا نستمر في الكتابة بينما من يقرأون يموتون، ومن هم مخوّلون بحمايتهم من الموت لا يقرأون؟ وأتساءل كثيرا لماذا يموت الناس في مصر؟ لماذا تهدر الأرواح هكذا هباءً؟ هل أصبح لدينا مشكلة في فهم المعنى الاصطلاحي لكلمة الموت؟ فالموت لا أن تموت وحدك، الموت أن تموت أنت جسديا، بينما تموت أمك وأبوك وأخوك وأصدقاؤك وكل من يحبك معنويا، فهو حكم بالإعدام على 5 أشخاص آخرين على الأقل. كلمة أقولها في أذن كل ضابط تآمر في هذه المذبحة، بالتخطيط أو المشاركة أو حتى السكوت وعدم التدخل، أرواح 72 شخصا ستطاردكم وتقضّ مضاجعكم أينما ذهبتم، سترونهم في أحلامكم بثيابهم التي لُطّخت بدماء أهدرتموها، سترونهم على نفس سُفرتكم وأنتم تتناولون فطوركم اللذيذ وهم ينظرون إليكم بعينين حمراوين من فرط الاختناق، متسائلين: هل كنا نستحق الموت؟ وإذا كانت إجابتك بنعم فلماذا لم تعطني الفرصة كي أودّع أمي التي لم تعرف أني خرجت من البيت وسافرت من ورائها خلسة.. لو كنت أعرف أن حكما بالإعدام قد صدر في حقي لكنت ودّعتها فهي لا تكفّ عن البكاء، أجبني يا سعادة البيه الضابط.. هل كانوا يستحقون الموت؟ فال72 طفلا وشابا الذين قُتلوا غدرا و"حدفا" وطعنا وخنقا وتدافعا كفاتورة لوطن لا يتحكم فيه سوى القوادين ممن يقبلون أن يصعدوا على جثث الوطن، هؤلاء ال72 شابا لهم أسر توقفت حياتها عند هذه اللحظة.. لهم أصدقاء ما زالوا يكتبون تويتات ونوتس على صفحاتهم تخاطب الموتى وكأنهم أحياء، تطلب من أنس أن يعود: "والله هاسيبك ترخم عليّ من غير ما أشتمك، هاسيبك تضربني في ودني زي ما كنت بتعمل، ومش هاعملك حاجة، بس ارجع عشان خاطري".
هل أصبحنا نحتاج إلى كورسات تقوية لفهم معنى كلمة الموت في هذا الوطن الذي أصبح الموت فيه صناعة وحرفة، وأصبح هو عجلة الإنتاج الوحيدة التي لا تفرخ سوى الجثث هل يحتاج قادتنا إلى إعادة صياغة معنى الموت وتوضيح كيف يموت إنسان وتتوقف حياة أسرته عند لحظة موته، بينما يمضي الآخرون في حياتهم قدما، هل يجب أن يفقدوا الشعب كله حتى يشتموا رائحته المستعرة في أنوفهم عندما يفقدون قريبا أو حبيبا بأيديهم وليس بأيد غيرهم؟