عندما ترغب في التآمر بنجاح على خصمك، فعليك أن توفر لمؤامرتك الأرض الخصبة والظروف الملائمة. تلك حقيقة أدركتها روما -التي تعتبر النموذج الأقوى للتآمر في العالم القديم- وراعتها بدقة شديدة. التأهيل الداخلي وتوفير الظروف له الأولوية على تجهيز أرضية اللعب، خاصة لو كان المتآمر دولة ذات قوانين ونظم ديمقراطية لا تسمح بالتصرفات الفردية للفئة الحاكمة. هذه الحقيقة أيضًا أدركها الرومان وتعاملوا معها ببراعة مدركين أن أول خطوة هي الدعاية الداخلية لإعطاء مبررات التآمر على الآخر. فأولاً يجب إقناع الأصوات المؤثرة بالطبقة الحاكمة سواء تنفيذية كالقادة والوزراء أو تشريعية كالبرلمان، فضلاً عن تأهيل الشعب وشحنه بفكرة وجود ضرورة كبيرة للتصرفات المزمع القيام بها. بمعنى أدق، كان المطلوب هو "ذريعة" لتبرير تصرفات أصحاب الأجندة التآمرية.
تلك الذريعة لم تكن تخرج عن أمرين: الأول هو زرع صورة سيئة في الأذهان عن الخصم، سواء كنت صورة صحيحة أو ظالمة، والآخر هو تثبيت فكرة عامة بأن العمل العدواني مع الآخر لا يهدف سوى لتحقيق أهداف نبيلة مثل "إرساء العدالة" و"نشر التحضر" و"محاربة الظلم"، وبالطبع يحتاج هذا أولاً لوجود فكرة عامة في المجتمع المعتدي أنه النموذج الأسمى للحضارة الإنسانية.
هذه اللعبة مارستها روما بصبر وحنكة، فعلى مدى سنوات طويلة زرعت في أذهان الرومان فكرة أنهم الشعب المتحضر الراقي، وأن من سواهم "برابرة همج" ينتظرون اليد الرومانيةالبيضاء لانتشالهم من ظلمات التخلف. تلك الفكرة كانت المنطلق لإقناع كل من الشعب ونوابه بأية خطط رومانية خارجية عدوانية.
وبالفعل، كان الروماني ينظر للعالم من حوله بحضاراته وثقافاته على أنه عالم وحشي همجي خطر لا يفهم سوى لغة السيف والعصا، وقد بلغ تلاعب الساسة الرومان بعقول شعبهم أن أصبح الشعب يفسّر اختلاف الثقافات وأنماط الحياة عن ثقافته ونمط حياته ب"التخلف" دون أن يكلّف نفسه عناء محاولة فهم الآخر وفك رموز ثقافته. مما يعني أن الحكومة الرومانية نجحت -عبر السنين- في تربية شعب جاهل بالآخر متحفز له.
تمامًا كما تفعل الإدارة الأمريكية في عصرنا الحديث -وهي الدولة الأكثر شبهًا بروما في نمط التعامل الخارجي- فقد أقنعت أمريكا أبناءها -بل وأبناء معظم شعوب الأرض- أن النموذج الأمريكي هو الصورة الحصرية للحضارة الإنسانية، وأصبحت "أمركة المجتمعات" على رأس أجندة السياسة الخارجية الأمريكية، سواء بالغزو الثقافي المتمثل في التلاعب بالثقافات الحياتية للآخر، أو الغزو العسكري المباشر بدعوى نشر "الديمقراطية" و"حقوق الإنسان"، وبالطبع سبقت تلك السياسة عملية "برمجة" للشعب الأمريكي على كل المعطيات التي تجعله يفكر في الآخر أنه "متأخر ينتظر يد أمريكا المصلحة" أو "حاقد على الحضارة الأمريكية الراقية ومتربص بها"!
الدعاية الخارجية أما الآلية الثانية للتآمر على الآخر فتتمثل في وجود دعاية خارجية موجهة إليه تبرر التدخل في شئونه والاعتداء على سيادته، وتُوجّه إلى كل من شعبه وحكامه.
وأقوى نموذج لتطبيق تلك الفكرة هو التدخل الروماني في علاقات كل من الدولتين البطلمية في مصر والسلوقية في الشام، فكانت روما ترسل سيناتوراتها (أعضاء البرلمان) وساستها في جولات إلى أنطاكية (عاصمة السلوقيين) والإسكندرية (عاصمة البطالمة) بصفتهم "مبعوثي سلام" يرمون لإصلاح العلاقات المتردية بين الطرفين، وبينما كانت تلك واجهة تلك الزيارات المتتالية، كانت الجلسات المغلقة للمبعوث الروماني لكل من العاهلين السلوقي والبطلمي -على حِدة- تركّز على تأكيد دعم روما الكامل لحربه ضد جاره، بينما الصورة المعلنة هي أن روما ما جاءت إلى هنا إلا لنشر السلام في الشرق المسكين! وطبعًا كان الهدف الروماني هو ضرب كل من الدولتين إحداهما بالأخرى؛ حتى تُجهز الأقوى منهما على الأضعف ثم تفترس روما الدولة الباقية بعد أن تكون قد دفعت ثمن انتصارها على خصمها من اقتصادها وأبنائها، وأصبحت غير قادرة على صد غزو مباشر لأراضيها. والسبب أن الدعاية قد نجحت في تعمية أبناء الدولتين فجعلت كلا منهما ينظر للآخر باعتباره عدوا -وهو في حقيقة الأمر صديق وحليف- وينظر لروما باعتبارها الصديق المخلص الوحيد في هذا العالم القاسي!
بمعنى أدق، كانت روما تستخدم دعايتها ك"حصان طروادة" فهي تلبس قناع الصداقة والتآخي الإنساني بينما تمارس من وراء الستار ما يناقض ذلك القناع تمامًا..
وعودة للنموذج الأمريكي، فإن المتابع للاعتداءات والتدخلات الأمريكية في شئون دول أخرى -بشكل مباشر أو غير مباشر- يلاحظ تشابهًا في الدعاية الخارجية السابقة عليها، فالأمريكي يدخل أولاً من الباب باعتباره "مبعوث سلام"، فينظّم الجلسات والمؤتمرات ويسافر هنا وهناك ويتشاور مع هؤلاء وهؤلاء، ثم يستيقظ العالم على الآلات الحربية الأمريكية وهي تدكّ نفس الشوارع التي سار فيها المبعوثون لأجل السلام، بينما هؤلاء الأواخر يقلّبون أيديهم أسفًا على الشعوب المتخلفة التي تنتظر يد أمريكا الحانية لتزرع غصن الزيتون بين أشواكها.. ذلك الدور المكرر الثابت الذي مارسته الدعاية الأمريكية في أمريكا اللاتينية خلال الستينيات والسبعينيات بدعوى محاربة الديكتاتورية الشيوعية الشمولية، وتمارسه اليوم في العراق وأفغانستان بدعوى محاربة الإرهاب الإسلامي البغيض.
المريدون والحلفاء ولأن الحماقة أعيت من يداويها، فإن الدعاية الخارجية كثيرًا ما كانت تؤتي ثمارها بأن ينتشر في المجتمع المتآمر عليه تيار يدعو لتصديق دعاوى الصداقة والإخاء الرومانية، بل ويدعو لتبني النمط الروماني في الحياة مصدّقًا الأكذوبة الرومانية عن أن روما هي النموذج الحصري للتحضر والرقي.
والمثال الأقوى لذلك هو ما حدث في مملكة يهودا خلال عهد ملكها أنتيباس هيرود، فقد سعى هذا الملك لتحويل مملكته إلى "قطعة من روما" بإنشاء الحمامات الرومانية وحلبات الرياضة (الجمنيزيوم) وأحضر الفلاسفة والشعراء إلى بلاطه، وصار يتحدث اللاتينية ويرتدي ملابس أباطرة الرومان، لم تكن سياسته تلك رغبة منه في "تحديث الدولة" بل كانت عملية "رَومَنة" كاملة للمجتمع، مما أكسبه عداء المتدينين اليهود الذين قاوموا ذلك التيار الذي رأوه هدامًا، واصطدموا بالملك ورجاله، فدخلت المملكة في صراع رهيب أنهاه الرومان بالضربة القاضية حين قاموا بغزو فلسطين كلها ونفي أنتيباس هيرود حليفهم القديم الذي كان يحكم تحت رعايتهم ووفق تعليمات مندوبهم وحاميتهم في الشام!
هذا فضلاً عن تجنيد بعض الجماعات البشرية لتكون يد روما الباطشة في المناطق البعيدة عن ذراعها الفعلية، كما حدث عندما طلب الرومان من ملوك دولة الأنباط العربية الخروج مع جيش روماني لضرب إخوانهم العرب في الجزيرة العربية واليمن، ولولا أن الوزير صالح -وزير ملك الأنباط- كان شابًا داهية أدرك اللعبة الرومانية، وقام بتضليل الجيش في مجاهل الصحراء لكان الرومان قد بلغوا عمق جزيرة العرب وملكوها على حساب الأنباط. تلك الخطة الرومانية استخدمها ورثتهم في الشرق -البيزنطيون- عندما جعلوا من مملكة العرب الغساسنة المسيحية مخلب قط لهم بين العرب يحركونه وفق ما يريدون.
وعودة للنموذج الأمريكي، ففيما بعد الحرب العالمية الثانية، سعت أمريكا للقيام بعملية "أمركة" للشعوب انتشرت في أوروبا وامتدت للدول العربية في شكل غزو ثقافي واسع لم يقتصر على الثقافة المباشرة المتمثلة في المسموع والمقروء والمرئي، بل ركزت على "الثقافة الحياتية" وصبغتها بألوان العلم الأمريكي، فضلاً عن انتشار التيارات المنتسبة للطبقة المثقفة، والداعية -تلك التيارات- لأن نتبنى نمط أمريكا في الحياة بمجالاتها السياسية والثقافية والاقتصادية، بغضّ النظر عن ملاءمة ذلك لمجتمعنا من عدمه. أما عن "تربية حلفاء" فإن المدقق في تأمل التدخلات العسكرية الأمريكية في مختلف بقاع الأرض يلاحظ أن مقدمة الوجود العسكري لأمريكا تتمثل في ميليشيات وكتائب من أبناء البلاد المغزوّة، سواء كانوا "الأكراد البشمرجة" في العراق، أو "الانقلابيون العسكريون على الاشتراكية" في شيلي أو "المرتزقة البوليفيين" خلال مطاردة أمريكا لجيفارا. هذا فضلا عن تحويل أنظمة كاملة لحلفاء تابعين، وبالتأكيد فإن هؤلاء الحلفاء وفّروا على روما قديمًا وأمريكا حديثًا دماء رومانية وأمريكية، فضلاً عن تحمل أوزار أية مذابح أو اعتداءات أو أعمال قذرة لا يريد السادة في روما وواشنطن تلويث أيديهم بها.. وأتذكر هنا مشهدًا من فيلم "آلام المسيح" عندما غسل الحاكم العسكري الرومانيلفلسطين يديه رمزًا لتبرؤه من جريمة قتل المسيح بينما ترك اليهود يفعلونها! هذه بالضبط هي العلاقة بين الحلفاء والسادة، أما التيارات الداخلية "المتأمركة" أو"المترَوْمِنة" فهي بمثابة السماد الذي يؤهّل أرض المجتمع لتقبل الوجود الخارجي حين يأتي وقت توجيه الضربة القاضية.
المال والسلاح التحرك الروماني تجاه الشرق القديم كان -من الأساس- مدفوعًا بأغراض تجارية، فالسيطرة على تلك الرقعة الواسعة من الأرض التي تحتكر طريق التجارة الطويل الممتد -برًا وبحرًا- من الهند والصين عبر فارس والعراق شمالاً واليمن جنوبًا مرورًا بالشام ومصر وانتهاءً بروما، كان حلمًا رومانيًا قديمًا، فقد كانت السياسة الرومانية ترمي لأن تكون دورة رأس المال في تلك المنطقة -وهي كل العالم آنذاك- دورة رومانية بحتة، تتحرك فيها قِطَع الذهب داخل"البيت الروماني"وتصب فيه، بدلاً من أن تتشارك فيها أيدٍ غير رومانية!
أساطين التجارة الدولية الرومان أدركوا ذلك، فباركوا بأموالهم وتعاونهم الحملات الرومانية على الخارج، ومدوا يد العون للقادة والساسة بتمويل حملات الجيوش، ودعم الساسة في انتخابات السناتو (البرلمان الروماني)، تحديدًا الساسة الذين يؤيدون التوسع الروماني، لإدراك هؤلاء التجار أن إضافة المزيد من مناطق النفوذ لروما يعني مزيدًا من الأسواق والسلع والامتيازات التجارية، وقد نجح سادة روما في إسالة لعاب هؤلاء التجار من خلال السياسات المالية الرومانية في الولايات المضافة للإمبراطورية، حيث كانت تلك السياسة تعتمد على استنزاف موارد تلك البلدان وتحويل شعوبها لمجرد خدم للسيد الروماني يلقي إليهم الفتات بينما يستمتع هو بأفضل وأكثر الإنتاج، مما يعني توفير نفقات رعاية مواطني تلك الولايات وصبها في خزائن القادة والساسة والتجار.. بمعنى أدق، تحول العالم إلى سوق روماني كبير، وهو ما تفعله أمريكا الآن بدقة بربط سياساتها الخارجية بسياسات وأجندات المؤسسات التجارية عابرة القارات، وإقحام تلك المؤسسات في أعتى أعمال التآمر والتدخل الأمريكي في شئون دول العالم المختلفة، بل وأصبح الأمر بمثابة دائرة مغلقة، فالإدارات الأمريكية تحرك المؤسسات والمؤسسات توجه الإدارة، ومن المألوف جدًا أن تكون لبعض أفراد الإدارة الأمريكية صفة إدارية بمؤسسة تجارية ضخمة، أو أن يمارس رجال الأعمال وظائف سياسية أمريكية. مما يؤدي لتداخل وتوافق بين سياسات كل من الشركة العملاقة والبيت الأبيض، وتقديم كل منهما خدمات خارجية لعمل الآخر، فالإدارة تعطي الشركة امتيازات واحتكارات في البلد الواقع تحت سيطرتها، مقابل ما تقدمه أفرع الشركة من خدمات للأعمال التآمرية الأمريكية في الخارج بالذات فيما يتعلق بعملية "صناعة ستار" يعمل من خلفه العملاء الذين ينفذون المخطط التآمري.
الخلاصة تلك المقارنات المتتالية بين النموذجين الروماني القديم والأمريكي الحديث إنما أهدف من خلالها لإظهار الثورة التي خلقتها روما في مجال التآمر تخطيطًا وتنفيذًا، مما جعلها -بحق- مدرسة في ذلك الفن...
ولكن خلال سَكرة روما بتسيدها العالم، كان ذلك العالم يستعد لتغير كبير في أفكاره وثقافته، تغيّر كان من شأنه جعل المتآمرين -من الرومان وغيرهم- يعيدون حساباتهم ويفكرون في سُبُلٍ جديدة للتآمر والسيطرة بعد أن واجهت مخططاتهم صحوة روحية قوية قادها رجل قوي من فلسطين عرفوه باسم "عيسى بن مريم الناصري"... (يتبع)
مصادر المعلومات 1- بلاك ووتر: جيرمي سكيل. 2- جواسيس جدعون: جوردون توماس. 3- عولمة القهر: د. جلال أمين. 4- العولمة: د. جلال أمين. 5- التنوير الزائف: د. جلال أمين. 6- العالم البيزنطي: ج. م. هسي. 7- الأنباط.. الولاية العربية الرومانية: جلين وارين بورسوك. 8- موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: د. عبد الوهاب المسيري. 9- محمد والذين معه: عبد الحميد جودة السحار. 10- الإمبراطورية الأمريكية: محمد حسنين هيكل. 11- مصر في عصر الرومان: د. الحسين أحمد عبد الله. 12- اليهود في فلسطين في العصرين البطلمي والسلوقي: د. هاني عبد العزيز جوهر. 13- الشرق الأدنى في العصرين الهللينيستي والروماني: د. أبو اليسر فرح. 14- يوميات بوليفيا: أرنستو تشي جيفارا. 15- موسوعة تاريخ العرب: عبد عون الروضان. 16- تاريخ العرب القديم: د. توفيق برّو. 17- جزيرة العرب قبل الإسلام: برهان الدين دلّو. 18- أطلس التاريخ العربي الإسلامي: د. شوقي أبو خليل. 19- لماذا تقتل يا زيد؟: د. يورجين تودينهوفر. 20- نظرية الواحد في المائة: رون سسكند. 21- اغتيال الديمقراطية.. لعبة المخابرات الأمريكية: عبد القادر شهيب. 22- تاريخ الاستشراق وسياساته: زكاري لوكمان. 23- التحالف الأسود: ألكسندر كوكبرن - جيفري سانت كلير. 24- المثل السياسية: دليل بيرنز. 25- الماضي يُبعث حيًا: إدنا مجوير. واقرأ أيضا تاريخ شكل تاني.. المُؤامَرة! (1) تاريخ شكل تاني.. المُؤامَرة! (2) تاريخ شكل تاني.. المؤامرة!.(3)