فَعَلَتها معي السيارة مرة أخرى.. هذه المرة توقفت تماما على الطريق السريع، المشكلة هذه المرة أنه من الصعب جدا أن يقف أحد ليساعدك في طريق كهذا؛ فالسيارات تمرق بجوارك كالصواريخ مُلقية عليك هبّات من الهواء البارد الذي يصطدم بوجهك، ويزيد من شعورك بالضيق واليأس.. الوقت متأخر، والأضواء الباهرة لكشافات السيارات المسرعة تُعمي عينيّ وتدمعهما، وقفت لفترة طويلة أشير إلى السيارات لعلّ أحدا يقف ليساعدني؛ لكن أحدا لم يفعل، ظلام وأضواء سريعة ساطعة وهواء بارد، وأنا وحدي بجوار السيارة في هذا الطريق الصحراوي الخالي الذي يتجه إلى أحياء القاهرةالجديدة التي لا تزال بعدُ في طور الإعمار والبناء. في المرة السابقة تعطلت بي السيارة في شبرا، ولم يمضِ وقت طويل حتى أتي لي أولاد الحلال بميكانيكي فتح غطاء السيارة الأمامي وجرب تشغيلها عدة مرات ثم تركني وعاد بعد قليل ومعه قطعة غيار قام بتركيبها. لا أفهم كثيرا في ميكانيكا السيارات، كل ما أعرفه عن السيارة هو أن بها عجلة قيادة لتغيير الاتجاه وعصا فتيس لتغير السرعات، ودواسة بنزين للانطلاق، ودواسة فرامل للتوقف، وأنها تحتاج إلى إضافة الماء وتغيير الزيت ونفخ الإطارات كل فترة.. لا أعرف أكثر من هذا، ولهذا فعندما شرح لي الميكانيكي المشكلة لم أفهم شيئا، وإن تظاهرت أمامه بعكس هذا، كما أنني لا أتذكر الآن اسم القطعة التي قام بتغييرها. كانت قطعة الغيار إياها قديمة الشكل، وقد شككت أنها قطعة قديمة مستعملة، الآن وبعد أن توقفت السيارة مرة أخرى تأكدت أن هذا الميكانيكي لم يكن ذا ضمير، مرة أخرى أجد نفسي في نفس الموقف؛ لكن لا يبدو أن هذه المرة ستمرّ بنفس السهولة. فكّرت في أن أستخدم هاتفي المحمول للاتصال بأحد أقربائي كي يأتي لمساعدتي؛ لكن المشكلة أنني لا أعرف أين أنا بالضبط لأصف له المكان، لا أعرف حتى اسم هذا الطريق، وإذا تركت السيارة هنا وركبت سيارة أجرة قد لا أتمكن من العودة لها مرة أخرى؛ لكن أين سيارة الأجرة هذه حتى أركبها؟ كل السيارات تسير بأقصى سرعة، وفي هذا الظلام وأضواء السيارات الساطعة الموجهة تجاهي من المستحيل أن أستطيع التمييز بين سيارة الأجرة والسيارة العادية. مشكلة أخرى هي أنه من الصعب أن يتوقف لك أحد؛ سواء كان في سيارة أجرة أو سيارة عادية؛ فكل شخص سيظن أنك قاطع طريق آخر ما دمت تريد إيقاف سيارة في هذا المكان الخطر، لا شك أن شركاءك يختبئون في مكان ما بانتظار اللحظة المناسبة للهجوم. كنت قد بدأت أيأس، فتحت الغطاء الأمامي للسيارة وأخذت أحدق في الموتور في هذا الظلام شاعرا بالغباء الكامل، شعرت بأنني في قمة العجز والإحباط، وعندها شعرت بسيارة تتوقف خلفي. التفتُّ شاعرا بأمل مفاجئ كانت سيارة سوداء فاخرة قد توقفت بهدوء، ولا يزال محرّكها دائرا. كيف أصف هذه السيارة؟ لا أفهم كثيرا في ماركات السيارات؛ لكني أكاد أجزم أنها أفخم سيارة رأيتها في حياتي، سوداء اللون ضخمة فاخرة؛ حتى في هذا الضوء الليلي الضعيف كان جسمها لامعا كمرآة، وكان هناك بخار أبيض يخرج من خلفها، وتنعكس عليه الأضواء الحمراء للمصابيح الخلفية. ظلت السيارة واقفة لم يترجل منها أحد، اقتربت منها وانحنيت أنظر من نافذة بابها الأيمن محاولا أن أرى السائق؛ إلا أنني لم أرَ إلا وجهي المنعكس على الزجاج الفيميه الأسود. طرقت بإصبعي على الزجاج، بعد قليل هبط الزجاج الكهربي ببطء، ورأيت السائق أخيرا، وكانت أضواء التابلوه القويّة منعكسة على وجهه. كان شابا نحيلا في مثل عمري تقريبا، يرتدي ملابس جلدية سوداء، ومما أثار استغرابي هو أنه كان يرتدي نظارة شمس برغم أن الوقت كان ليلا. أشار لي أن أركب جواره. قلت متلجلجا: "سيارتي معطلة.. لا أعرف ماذا بها.. هل يمكن أن..". أشار لي مرة أخرى أن أركب، لعله لا يريد أن يخرج من السيارة الدافئة في هذا البرد، قررت أن أدخل لأتحدث إليه بداخل السيارة، ثم إنها فرصة لا تقاوم لأركب هذه السيارة التي قد لا أستطيع أن أركب مثلها ما حييت، إن منظر مقاعدها الجلدية البيضاء الفاخرة لا يمكن مقاومته أبدا. فتحت الباب وجلست على الكرسي، لكنني لم أتمكن حتى من إغلاق الباب. في لحظة واحدة، كان قد انطلق بالسيارة كالصاروخ، أصدرت الإطارات صوتا مفزعا، وشعرت برأسي ترتطم بشدة بمسند الرأس في المقعد، فتشبّثتُ بيدي اليسرى بشدة أسفل الكرسي؛ كي لا أسقط من الباب المفتوح. كنت أريد أن أصرخ لكنني كنت عاجزا عن التنفس، لم أستطع أن أجعل صوتي يخرج، وبجواري كان صاحب السيارة يضحك ضحكة جذلة مجنونة. حاولت أن أغلق الباب المفتوح الذي يتأرجح بشدة جواري لكني لم أستطع أن أصل بيدي إلى المقبض، لكن انحناءة عنيفة من السيارة إلى اليسار دفعت بالباب بشدة لينغلق. مضت ثوانٍ أخرى قبل أن أدرك أنه انغلق على إصبع يدي اليمنى الصغير، وشعرت بألم شديد ينبض في رأسي؛ لعل إصبعي انكسر. لكن ذعري من الضحكة المجنونة التي لا يزال رفيقي في السيارة يطلقها غطّت على ألمي. كان لا يزال ينطلق بالسيارة بسرعة هائلة. لمحتُ عداد السرعة يشير إلى مائة وستين. كان يناور السيارات بمهارة فائقة ويضحك، تذكرت سيارتي التي تركتها مفتوحة على الطريق، والأسوأ أنني تركت مفتاح السيارة في الكونتاكت. لعل هذا الرجل جزء من عصابة تعمل على سرقة السيارات؟ لكن ماذا تساوي سيارتي بجوار هذه السيارة؟ لعلها لا تساوي ثمن إطار واحد منها. كان ألم إصبعي قد وصل إلى درجة لا تطاق، فكنت أريد أن أفتح الباب؛ لأخلصه لكني خفت أن أسقط من السيارة ونحن منطلقون بهذه السرعة. استجمعت كل قوتي وكل ألمي لأصرخ صرخة واحدة: "توقاااااااااااف!!!" ولدهشتي لم تخرج بالقوة التي توقعتها، أما هو فقط توقف عن الضحك وسألني بلهجة ساخرة: "كيف حالك يا أحمد؟". شعرت بذهول حقيقي! كيف عرف اسمي؟ أخذت أتفرس فيه، بجسده النحيل، وملابسه السوداء، ونظارته المعتمة.. ألعل هذا الرجل شيطان؟ نهاية الجزء الأول