حرب المعلومات هي العنصر الأساسي لعمل المخابرات؛ فهي أهم عنصر لتتمكّن الدولة من مواجهة أي عدو؛ لذلك فقد اهتمت كل الدول بزرع جواسيس لها بداخل الدول الأخرى؛ خاصة دول العدو. إلا أن معظم المعلومات التي يجمعها أي جهاز مخابرات عن دولة أخرى لا تأتي من خلال الجواسيس والعملاء؛ بل إن أكثر من 70% من المعلومات تأتي من خلال المصادر العلنية لجمع المعلومات، مثل: الجرائد، والمجلات، والكتب، وما يعرضه التلفاز من برامج، ويوجد في كل جهاز مخابرات قسم مسئول عن جمع وتنسيق وترتيب كل ما يعتبر من المصادر العلنية لجمع الأخبار، ومن ثمّ تحليل كل كلمة ترد بها لمعرفة كل شيء عن الخصم. وهذا يؤكّد قاعدة استخباراتية مهمة؛ تقول: "قد أسمع وأرى.. ولكن لا أفهم"؛ أي إن كل شيء كان يتم تحت أعين العدو، إلا أنه لم يفهم المغزى الحقيقي إلا بعد فوات الأوان. خدعة الخوذة من أبرز الأمثلة على أهمية الاطّلاع على صحف ومجلات الأعداء؛ هو ما جاء في صحف إسرائيلية على لسان موشيه دايان -وزير الدفاع الإسرائيلي- بأنه يعرف استعداد الجنود المصريين للحرب بلبس الخوذة، وقد استفادت المخابرات المصرية من هذا التصريح؛ فصدرت أوامر بعدم ارتداء الخوذة إلا قبل الحرب بلحظات، ومَن يخالف الأوامر -ولو بطريق الخطأ- يُحبس لمدة شهر. مساهمات إسرائيلية في خطة الخداع قدّم وزير الدفاع الإسرائيلي -دون أن يدري بالطبع- مساهمة جليلة للمخابرات المصرية في عملية جمع المعلومات؛ عندما ألقى بيانا وافيا أمام الكنيست عن إسقاط طائرة الركاب الليبية المدنية، والتي أسقطتها مقاتلات الفانتوم الإسرائيلية قبل الحرب بسبعة أشهر، والتي أحدث إسقاطها رد فعل وازدراء في أنحاء العالم أجمع، وكانت الطائرة قد انحرفت عن مسارها نتيجة خطأ ملاحي فطارت على ارتفاع 24 ألف قدم فوق مستوطنة "تسيون" (تقع غرب رأس سدر بمسافة 32 ميل بحري)، وكانت تطير بسرعة 750 كيلو مترا في الساعة باتجاه الشمال الشرقي في تمام الساعة 1:54 دقيقة ظهر يوم الأربعاء الموافق 21 فبراير 1973. وقال دايان أمام الكنيست إن الرادار الإسرائيلي أوضح الخط الملاحي للطائرة في الساعة 1:56 بالضبط، وأن الأوامر صدرت في الساعة 1:59 لطائرتَي الفانتوم للحاق بالطائرة، وظلّتا تدوران حول الطائرة لمدة 7 دقائق، ثم أطلقتا نحوها الصواريخ، وسقطت في الساعة 2:11، وكانت على بُعد 20 كيلو مترا من شرق القناة. واستخلص رجال المخابرات المصرية من حديث دايان أن الرادار الإسرائيلي يستغرق دقيقتين في تحديد مسار طائرة تسير بسرعة 750 كيلو متر/ الساعة، وأن قيادة سلاح الجو الإسرائيلي تصدر الأوامر بالإجراء المناسب بعد ثلاث دقائق كاملة. وبهذه الحسبة استطاعت القوات الجوية المصرية وضع جدول ثابت لعملية رصد الرادار الإسرائيلي. السادات لم يَذكُر في خطابه شيئا عن الحرب خطة الخداع السياسي والإعلامي وكان من أهم أعمال الخداع الإعلامي والسياسي؛ ما يلي: بدايةً على الصعيد العلمي؛ تمكّنت المخابرات المصرية بإقناع العالم أجمع -وعلى رأسه إسرائيل وأمريكا- بأن مصر لا تنتوي خوض أي حرب، وأنها تسعى للحل الودّي؛ نظرا لعدم قدرة قواتها وشعبها على احتمال أي حرب قادمة، مؤكّدة أنها ستهزم هزيمة ساحقة في أي حرب في الفترة القادمة. واتبعت المخابرات العديد من الخطوات التي ساعدتها على تأكيد على هذا المفهوم وترسيخه لدى العدو؛ وهي: 1 - روّجت مصر أخبارا وتحليلات عن ضعفها للدرجة التي لا تسمح لها بدخول أي حرب، وسرّبت هذه الأخبار والتحليلات بطرق ذكية جدا؛ من خلال كُتّاب ومعلّقين في مختلف وسائل الإعلام العالمية. 2- قبل المعركة بعام أنشأت الحكومة المصرية محطة إذاعة تذاع باللغة العبرية، وتعمل على مدى 12 ساعة يوميا، وكانت هذه المحطة موجّهة إلى إسرائيل، وتذيع موسيقى غربية خفيفة يتخلّلها نشرات إخبارية وتعليقات تدعو للسلام. 3- كان التقرير الذي قدّمه وزير الخارجية المصري إسماعيل فهمي إلى مجلس الأمن يتصف بالاعتدال.
4- لأول مرة قبل الحرب يخطب رئيس الجمهورية في مناسبة عامة ومهمة؛ وهي ذكرى وفاة عبد الناصر؛ ولا يَذكُر في خطابه إلى الشعب شيئا عن الحرب. 5- امتدت عملية التمويه والخداع إلى نشاط الوزراء وتحرّكاتهم؛ فعندما بدأت الشرارة كان وزير الاقتصاد في لندن، ووزير المواصلات في إسبانيا، ووزير الإعلام في ليبيا، ووزير الخارجية في أمريكا، وكانت قرينة وزير الحربية قد دخلت أحد مستشفيات لندن لإجراء جراحة لها؛ وقد أعطت هذه المظاهر انطباعا بأن الحياة في مصر تسير بشكل عادي. 6- أعلن في القاهرة قبل بدء المعركة بأيام أن مؤسسة "بكتل" الأمريكية قد اختيرت من بين المؤسسات العالمية لإقامة خط أنابيب بين السويس والبحر المتوسط، ويعدّ هذا الاتفاق أضخم اتفاق اقتصادي بين مصر وأمريكا. 7- حين وجّه وزير خارجية أمريكا الدعوة للوزراء العرب الموجودين في نيويورك خلال دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ لتناول الغداء على مائدته، رفض العرب تلبية الدعوة، وقد أظهرت مصر -بشكل واضح وغير عادي- عدم ارتياحها لهذا التصرّف، وكان الانطباع الفوري هو أن مصر تتشبّث بتلابيب أي حل سياسي لا تستطيع تحقيقه إلا بالولايات المتحدةالأمريكية. 8- قبل 24 ساعة قابل وزير خارجية مصر وزير خارجية أمريكا في فندق "والدروف أستوريا" بنيويورك، ودامت المقابلة ساعة كاملة أخذ الوزير المصري يلوح فيها على أن تقوم أمريكا بدور فعّال في حلّ الأزمة سياسيا. 9- أشاعت مصر انطباع بأنها تسعى للحصول إلى حلّ سلمي من خلال الاتجاه نحو السعودية والكويت وإمارات الخليج العربي، وكان تحليل ذلك هو أن مصر باقترابها الشديد من دول البترول المرتبطة بالغرب، إنما تسعى إلى استخدام البترول كوسيلة ضغط من أجل الحل السياسي، ورسّخت مصر هذا التحليل بتصريحات وأقوال مختلفة. 10- في نفس الفترة التي بدأ معها العد التنازلي للحرب، أُعلن في بيان رسمي أن وزير الدفاع الروماني سيصل إلى القاهرة يوم 8 أكتوبر؛ بدعوة من المشير أحمد إسماعيل الذي سيكون شخصيا في استقباله لدى وصوله بمطار القاهرة. 11- لاحظت المخابرات الإسرائيلية أن قيادة القوات المسلحة المصرية قد وافقت في شهر سبتمبر 1973 على منح إجازات لمن يريد من الضبّاط والجنود لأداء العمرة. 12- استمرار الروتين العادي على طول الجبهة، وتفادي الإقدام على إجراء يمكن أن يدل على تغيير سير الحياة الطبيعية؛ فصدرت أوامر بعدم لبس الخوذ حتى تبدأ الحرب. 13- إصدار أوامر للتمويه مثل "مجموعات الكسل"؛ وهم مجموعة من الجنود يمصّون القصب؛ ويأكلون البرتقال في مواجهة العدو وهم في حالة تراخٍ وخمول. 14- صدرت الأوامر بعدم نفخ قوارب المطاط المعدة للعبور قبل بدء الضربة الجوية؛ لأن التجارب أثبتت أن صوت الجنود وهم ينفخون هواء الفم في هذه القوارب يمكن أن يُسمع على مسافة 800 متر. 15- صدرت الأوامر بعدم إفطار الجنود الصائمين في رمضان إلا مع بدء العملية.
الطيران المصري يعبر القناة ويبدأ معركة المصير صفعة للمخابرات الإسرائيلية وجّهت المخابرات المصرية -وفقا لكتاب "تاريخ اليهود" لأحمد فؤاد- ضربة مخابراتية إلى إسرائيل أثناء حرب أكتوبر؛ بتوزيعها 3600 نسخة من كتاب يحوي أدق التفاصيل عن كل ضباط الجيش الإسرائيلي، وذلك قبل وخلال حرب أكتوبر. وعثر الإسرائيليون على نسخة من الكتاب في أحد المواقع المصرية في سيناء، هو كتاب ضخم مكتوب باللغة العربية تحت عنوان: "شخصيات إسرائيلية"، ويتضح من غلافه أنه صادر في شهر يناير 1973، ويحمل كلمة "سري"، قامت بإعداده المخابرات الحربية المصرية، ووزّعت منه 3600 نسخة للقادة من ضباط الجيش، أما محتواه فقد كان مفاجأة مذهلة للإسرائيليين؛ حيث احتوى على أسماء وصور كل الضباط الذين كانوا يخدمون بالجيش الإسرائيلي في هذا الوقت؛ بدءا من رئيس الأركان حتى رتبة الرائد، وقد كتب بجوار كل صورة نبذات عن حياته ووظيفته وأحيانا سمات شخصية واجتماعية، وينقسم إلى قسمين؛ الأول عن شخصيات إسرائيلية عسكرية، والثاني عن شخصيات إسرائيلية مدنية. ووصفت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية المعلومات الموجودة في هذا الكتاب بأنها مُذهلة، وتكشف معرفة المخابرات المصرية بأدق التفاصيل حتى عن الضبّاط الصغار. وتؤكّد الخطوة السابقة أن الجيش المصري انتصر قبل انطلاق الرصاصة الأولى عندما تفوّقنا في حرب المخابرات بشكل كاسح ومذهل، حسب اعتراف الإسرائيليين أنفسهم. خطة الخداع الدولي ومع بداية أكتوبر 1973 وصلت خطة الخداع إلى ذروتها، وارتفعت درجة حرارتها إلى الخط الأحمر؛ فقد حملت الصحف إعلانا عن رحلات عمرة رمضان التي يقوم بها الضباط والجنود من خلال القوات المسلحة، وطلب منهم الإعلان أن يتقدّموا بطلباتهم في نفس الوقت الذي وجّه فيه المشير أحمد إسماعيل الدعوة إلى وزير الدفاع الروماني لزيارة مصر يوم الإثنين الموافق 8 أكتوبر، أعلن في بيان رسمي أنه سيكون في استقباله شخصيا لدى وصوله إلى مطار القاهرة. وفي نفس الفترة تقريبا أعلن بصفة رسمية عن الاستعداد لاستقبال الأميرة الإنجليزية مارجريت التي أبدت رغبتها في زيارة مصر صباح يوم الأحد الموافق 7 أكتوبر، وطارت طائرتها بالفعل من لندن إلى روما، وبلغ الأمر حدا اجتمع فيه رجال المخابرات المصرية مع "بارينكوت" -قائد الجناح الجوي الملحق بالسفارة البريطانية- في الساعة الواحدة بعد ظهر يوم السبت الموافق 6 أكتوبر لرسم خط سير الطائرة وتأمين وصولها، وهم يعلمون أكثر من غيرهم أن مطار القاهرة سيتمّ إغلاقه في الثانية وخمس دقائق بالتحديد عند نشوب الحرب. أما قائد القوات الجوية -حينذاك- اللواء محمد حسني مبارك فقد كان يعتزم زيارة الجمهورية العربية الليبية بصحبة عدد من ضباط السلاح الجوي المصري يوم الجمعة الموافق 5 أكتوبر، كما أبلغ السلطات الليبية لاسلكيا؛ إلا أن ظرفا قهريا حال دون قيام الرحلة في موعدها؛ فتقرّر تأجيلها إلى عصر اليوم التالي الموافق 6 أكتوبر 1973. وقبل هذا الموعد بساعات معدودة كان الطيران المصري يعبر قناة السويس، ويعلن بدء معركة المصير. محاولة اغتيال موشيه دايان ومما يؤكّد على قوة جهاز المخابرات المصري قبل وأثناء الحرب؛ قدرته على التوصّل لأدق المعلومات وأكثرها خطورة؛ حيث تمّ تحديد موقع موشيه دايان بالضبط أثناء الحرب. فقد كشف اللواء فؤاد نصار -مدير المخابرات الحربية المصرية في حرب 73 وأحد أبطال ورجال أكتوبر- في تصريح لجريدة الأهرام العربي في أغسطس 2007 عن سر لم يعرفه أحد خلال الحرب؛ وهو محاولة اغتيال دايان أثناء الحرب، قائلا: "رجالنا تابعوا ما يحدث تفصيليا في ثغرة الدفرسوار، وأبلغوني أن دايان جاء إلى الثغرة ليلتقي القوات الإسرائيلية، وعلى الفور اتصلت بالسادات؛ فطلب مني تحديد موقعه على مسافة 20 مترا، وأعطى أمرا للقوات الجوية بضرب هذه المنطقة بالنابالم، وشُوهد المكان وهو يحترق, ودايان في القلب منه, وانتظرنا خبر وفاة دايان, لكنه لم يحدثّ!". وأضاف: "وفي اليوم التالي جاءتني صورة لدايان, وهو صاعد فوق نخلة في حالة فزع؛ فضحكت وأخبرت الرئيس السادات، وقلت له: إن الله لا يريد لدايان أن يموت حتى يشاهد جيشه مهزوما!!". وبالفعل تحققت نبوءة السادات، وعاصر دايان اندحار الجيش الإسرائيلي، وتجرّع مرارة الهزيمة، وتُوفّي دايان بعد إصابته بسرطان في القولون في عام 1981 عن عمر يُناهز 74 عاما. وانتهت بحرب أكتوبر73 أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وأثبت المصريون للعالم أجمع أنه مهما مرّت الأعوام والسنين وتظاهر المصريون بالخنوع؛ إلا أن المارد المصري كامن تحت الرماد ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض على عدوه للفوز بالنصر أو الشهادة. فهنيئا لكل شهدائنا الأبرار الذين رووا بدمائهم الطاهرة مصرنا الحبيبة؛ ففازوا بشرف الشهادة في الدنيا وثوابها في الآخرة. {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}