لعل أهم ادّعاء على الإطلاق قامت عليه دولة إسرائيل، وروجت له بكل ما تملك من قوة، هو أسطورة نقاء الجنس اليهودي، بمعنى أن اليهود يزعمون أن أي يهودي في العالم -من يهود الفلّاشا الزنوج في إثيوبيا إلى يهود أمريكا، ومن يهود روسيا إلى يهود المغرب- ينتمون وراثياً إلى الأسباط الاثنى عشر أبناء يعقوب عليه السلام، ومن هنا جاءت هذه الخرافة: "الجنس اليهودي النقي"، رغم أنه وبديهياً أنه منذ أيام يعقوب عليه السلام -أي أثناء حكم الهكسوس لمصر- إلى اليوم قد حدثت آلاف أو ربما ملايين الزيجات المختلطة بين يهود وغير يهود، التوراة نفسها تعترف بحدوث ذلك في عشرات المواضع، رغم أن الشريعة اليهودية تحرّم الزواج المختلط، فالتوراة تخبرنا أن الملك داود نفسه جدته الكبرى -واسمها راعوث- لم تكن إسرائيلية، ولكنها كانت من الموابيين (أحد الشعوب العربية القديمة)، ومثال صارخ آخر هو الملك سليمان بن داود الذي يحكي الكتاب المقدس أنه قد تزوج من 700 امرأة كلهن وثنيات من أمم مختلفة، ففكرة الزواج السياسي تلك كانت شائعة جداً خلال العصور القديمة. ولو نظرنا لعالم اليوم وحاولنا أن نحصي عدد اليهوديات اللاتي يتزوجن من مسيحيين أو العكس في أوروبا أو أمريكا، لبدت لنا حكاية نقاء الجنس اليهودي كادّعاء بالغ السخف.. كيف ينتمي يهود الحبشة ويهود أوروبا لنفس الجنس يقول أوجين بيتار أستاذ الأنثروبولوجي (علم الإنسان) في كتابه "الأجناس والتاريخ": "إن جميع يهود اليوم بعيدون عن الانتماء إلى أصل يهودي واحد، اليهود يشكلون بدون شك جماعة دينية اجتماعية قوية للغاية، ولكن العناصر التي تتألف منها تتباين بشدة، ولقد انضم إلى اليهود في جميع العصور أشخاص من أجناس شتى، فمنهم الفلاشا سكان الحبشة، ومنهم التاميل من الهند، ومن المستحيل أن نتصور أن اليهود ذوي الشعر الأشقر أو الكستنائي والعيون الصافية اللون الذين تلقاهم في أوروبا الوسطى يمتّون بصلة قرابة إلى أولئك الإسرائيليين الذين كانوا يعيشون بجوار نهر الأردن".. وللدكتور جمال حمدان دراسة شيقة عن أنثروبولوجيا اليهود حلل فيها جميع الصفات والملامح الشائع أنها تخص اليهود وتميزهم مثل لون البشرة وشكل العينين والحاجبين والأنف، وكانت خلاصة الدراسة أن التصور الشائع عن اليهودي بأنه "أسمر الشعر والعينين وذو شفاه ممتلئة وعيون منتفخة وأنف معقوف" هو غير دقيق بالمرّة، وأنه لا يمكن تحديد هيئة معينة أو مجموعة صفات جسدية تميز يهود العالم عمن سواهم. ويضيف جمال حمدان أن الحديث عن الوحدة العرقية بين اليهود لا محل له من حقيقة أو علم على الإطلاق، واليهود لا يعرفون الوحدة العرقية أكثر مما يعرفون الوحدة الجغرافية، وثمة إجماع بين الباحثين حالياً على أن نقاط التشابه بين أعضاء الجماعات اليهودية وبين أعضاء المجتمعات التي يعيشون فيها يفوق كثيراً أي تشابه قد يوجد بين أي جماعة يهودية وجماعة يهودية أخرى في مجتمع آخر. الفلسطينيون جاءوا من كريت! نأتي الآن إلى جزئية قد تبدو غريبة وربما صادمة للبعض، وهي أصل الفلسطينيين الذين سكنوا أرض فلسطين منذ آلاف السنين، والحقيقة أن أغلب المؤرخين يرجّحون أن الفلسطينيين قدموا في الأساس من سواحل بحر إيجة وجزيرة كريت وذلك منذ 13 قرناً قبل الميلاد، وقد احتل الفلسطينيون في البداية سواحل فلسطين، ثم انطلقوا منها لمهاجمة مصر أيام رمسيس الثالث، وعلى الرغم من تفوق الفلسطينيين الحربي إلا أنهم قد هُزموا وأُجبروا على التراجع إلى سواحل جنوب شرق البحر المتوسط من جديد، فعُرفت هذه السواحل ب"فلسطين" نسبة إليهم، ويذكر المؤرخون أن الفلسطينيين قد أسسوا 5 مدن هامة هي غزة وعسقلان وأسدود وغاث وعقرون، واكتفى الفلسطينيون بالسواحل فلم يتوغلوا إلى العمق كثيراً وذلك ليس لضعف قوتهم ولكن لأن أصولهم بالأساس ساحلية، فهم يفضلون الإقامة دائماً بقرب البحر.. هاجم العبرانيون مدن الفلسطينيين، واستطاعوا أن ينتزعوا منهم غزة وعسقلان وغاث، ولكن الفلسطينيين استطاعوا حشد قواهم وأنزلوا خسائر فادحة بالعبرانيين، وأخضعوهم لحكمهم لنصف قرن تقريباً، واستمرت الحروب سجالاً بين الفلسطينيين والعبرانيين إلى أن جاء الأشوريون من العراق وأخضعوا كل مدن الفلسطينيين والعبرانيين لسلطتهم. وبالتدريج أخذ الفلسطينيون يندمجون مع الكنعانيين سكان البلاد الأصليين، ولم تنقضِ 3 قرون على مجيء الفلسطينيين من جزيرة كريت وسواحل بحر إيجة إلا وقد اندمجوا تماماً في الحضارة السامية، ومسألة الاندماج والانصهار بين الشعوب والقبائل المختلفة كانت أمراً شائعاً طوال العصور القديمة والوسطى، وامتزاج الحضارات والشعوب ليس أمراً معيباً ولكنه "قانون الوجود الإنساني" كما يذكر الدكتور عبد الوهاب المسيري، بحيث أنه من المستحيل علمياً أن يوجد على ظهر الأرض اليوم جنس بشري نقي تماماً.. التبشير باليهودية الشائع عن الدين اليهودي أنه ليس ديناً تبشيرياً، بمعنى أن اليهود لا يهتمون بنشر دينهم ودعوة الآخرين إلى اليهودية، وذلك على عكس المسيحية والإسلام مثلاً، وتفسير ذلك بسيط، فاليهود يؤمنون أنهم هم وحدهم شعب الله المختار، وأنهم جميعاً ينتمون إلى أصل واحد، إلى يعقوب بن إسحق بن إبراهيم، وأن غيرهم من البشر مثلهم كمثل الأنعام، لم يخلقوا إلا لكي ينتفع بهم اليهود، وبالتالي فإن دعوة "الأغيار" إلى اليهودية تنسف هذا التميّز وهذا النقاء اليهودي من أساسه. والحقيقة أن قضية التبشير باليهودية قد اختلفت من عصر إلى عصر حسب الظروف وحسب مصالح اليهود، والثابت تاريخياً أن الدولة المكابية قد أجبرت عدداً من الشعوب على التهود مثل الأدوميين مثلاً، والمؤرخ اليهودي ريناخ يذكر صراحة أن "الحماس التبشيري كان في الواقع إحدى السمات المميزة لليهودية في العصر اليوناني الروماني، وهي سمة لم تتكرر بالدرجة نفسها قبل ذلك العصر أو بعده، وليس هناك شك في أن اليهودية كسبت بهذا الأسلوب عدداً وفيراً ممن تحولوا إليها خلال قرنين أو ثلاثة قرون، ولا يمكن تفسير النمو الكبير في عدد اليهود في مصر وقبرص وبرقة دون أن نفترض أن هذا قد استلزم ضمنياً تدفق دم كثير غير يهودي، فقد شمل التبشير باليهودية الطبقات العليا والدنيا على السواء". وطوال العصور الوسطى تكرر إعلان الكنيسة تحريم الزواج المختلط بين اليهود والمسيحيين مما يدل على تفشي تلك الزيجات التي تقضي تماماً على مزاعم النقاء العرقي اليهودي. أما من يريدون تغيير دينهم ويعتنقون اليهودية اليوم فسيكون التبرير اليهودي لذلك جاهز: إن كل من يتهود أو يتعاطف مع اليهود ينتمي بطريقة أو أخرى لأحد الأسباط العشرة الذين فُقدوا مع السبي الآشوري منذ ما يزيد عن 3000 سنة! الحلقة القادمة: ماذا تعرف عن إمبراطورية الخزر؟! اقرأ أيضا: ماذا تعرف عن إسرائيل؟ (1).. شعب الله المختار ماذا تعرف عن إسرائيل؟ (2).. خروج اليهود من مصر إلى التيه ماذا تعرف عن إسرائيل؟ (3).. مملكة اليهود وهدم هيكل سليمان؟!! ماذا تعرف عن إسرائيل؟ (4).. عودة اليهود ماذا تعرف عن إسرائيل؟ (5).. فلسطين عربية؟!