لماذا تَقتُل يا زَيد؟ "الجزء الثالث" لُعبة كرة قدم، كانت أول احتكاك بين د.يورجين تودينهوفر، وزيد المقاوم العراقي الشاب.. وبعد صلاة العشاء جلس الجميع لتناول عشائهم، وأخذ البروفيسور يتأمل زيدًا الذي بدت في عينيه وملامحه واضحة الوسامة مسحة حزن غامض تتناقض مع ما هو مألوف من شاب مثله. الفتى كان مترددًا -في بداية الأمر- بشأن التحدث لد.يورجين، لكن سرعان ما لان واتفق معه على أن يلتقيا في الصباح لتبادل الحديث، بعد أن تعهد البروفيسور بأن يعمي -قدر الإمكان- على الشخصية الحقيقية لزيد حتى لا يتعرض الفتى أو أسرته لأية مشكلات من قِبل الاحتلال أو الحكومة. وبعد ليلة تخللتها أصوات الرشاشات والمدافع من بعيد، وحركات مروحيات الأباتشي في سماء المدينة، قام الجميع ودلف زيد إلى حديقة المنزل وهو يقول لد.تودينهوفر: "لقد أردت الحديث معي".. ذلك الاهتمام.. لماذا؟ ربما يحار القارئ أمام ذلك الاهتمام الذي يبدو مبالغًا فيه من البروفيسور بالشاب زيد، إلا أن التفسير البسيط للأمر هو أن د.تودينهوفر كان يعتبر الفتى نموذجًا حيًا للمقاوِم العراقي الشريف الذي لا ينتمي سوى لوطنه، لا هو من أفراد الميليشيات الشيعية الساعية لمصالح ساداتها سواء في العراق أو إيران، ولا هو من الإرهابيين المنتمين لتنظيم القاعدة، بل هو شاب يمارس المقاومة فقط ضد المحتل الأجنبي، بالشكل المعروف بالمقاومة التي كثيرًا ما تخلط وسائل الإعلام -للأسف- بينها وبين المنظمات الإرهابية.. كان زيد هو نموذج الهدف من ذلك التحقيق الصحفي الكبير الذي يجريه د.تودينهوفر في العراق، ليبين للقارئ الغربي أن ليس كل من يحمل السلاح في ذلك البلد بالضرورة إرهابي، وأن ثمة فوارق بين من يقاوم لأجل وطنه، ومن يمارس الإرهاب تنفيذًا لأجندة موضوعة مسبقة من ذوي المصالح والأطماع. ولهذا أيضًا فقد اشترط البروفيسور على مضيفه أبي سعيد ألا يقدم له سوى رجال المقاومة الشرعية، وأن يجنبه رجال القاعدة والجماعات المسلحة الشيعية، أولاً لأنهم ليسوا ضمن هدف البحث، وثانيًا لأن مجرد لقائه بهم قد يعرضه لمشكلات أمنية عند عودته لألمانيا. قصة زيد عودة إلى زيد الذي جمعته جلسة منفردة مع د.يورجين، بدأ فيها يحكي حكايته المثيرة، شديدة العمق.. فالفتى المولود سنة 1986 لأب وأم يملكان محلاً للبقالة، ويعولان خمسة أبناء -ثلاثة ذكور وأنثيين- لم يكن معروفًا عنه حب العنف أو الميل إليه ولو على سبيل المزاح، ولم تكن للأسرة كلها أية جذور عسكرية أو ميول للأعمال المرتبطة بحمل السلاح. كان زيد هو الأكبر بين الذكور، وكان ينوي دراسة التاريخ في الجامعة أسوة بعمه أبي سعيد. كانت الحياة تسير، حتى مع الأزمات الاقتصادية الطاحنة التي تعرضت لها الأسرة شأن أغلب أسر العراق خلال حرب الخليج وما تلاها من فترة العقوبات القاسية على العراق. فما الذي جرى لذلك الشاب المسالم حتى صار يحمل السلاح ويخرج ولا يعلم أيعود قاتلاً أم مقتولاً؟ حدث التغير على مراحل، كان أولها دخول القوات الأمريكية والبريطانية العراق منهية آمال العراقيين في انهزام الغزاة على عتبات بغداد، ووصول القوات الأمريكية إلى الرمادي حيث استقبلها أهل المدينة برشق الغزاة بالبيض والأحذية والخضروات الفاسدة. أما الصدمة التالية فكانت أكثر عنفًا، فبعد أن أسس الأمريكيون قاعدتهم في المدينة، وذات يوم عصيب، كان هارون -شقيق زيد الذي يصغره بعام- عائدا من عند عمه، وقف يشير بالتحية لأحد أصدقائه، وقبل أن تعود يده إلى جانبه باغتته رصاصة قناص أمريكي في مؤخرة رأسه فسقط فورًا ميتا وعلى وجهه علامات عدم التصديق. سقط وفي يده وردة بيضاء كان يحملها لأمه، في مشهد كلاسيكي ذي دلالات عميقة، وبالطبع لم يستطع أحد الخروج من بيته لإغاثته خوفًا من أن تنطلق رصاصات أخرى، ومرت ساعة طويلة قبل أن تمر سيارة مطافئ وتحمل جثة القتيل. ولكي تكتمل المأساة لم يستطع زيد ولا أسرته أن يلقوا على فقيدهم النظرة الأخيرة، فقد دفنته السلطات الصحية فورًا حيث إن ثلاجات المشرحة لم تكن تعمل! كانت تلك صدمة عنيفة للأسرة المسالمة، اضطر زيد أن يُخرِج نفسه منها من أجل الأخ الأصغر "كريم" الذي كان شديد التعلق بهارون الراحل، وسعى زيد بكل الطرق لكي يُخرِج أخاه من حالته النفسية السيئة، إلا أن صدمة تالية أكثر عنفًا كانت تنتظر الجميع. فذات يوم، هوت صواريخ أمريكية على مولد الكهرباء الرئيسي للمنطقة التي تقطنها أسرة زيد التي أسرعت بمغادرة المنطقة إلى بيت أحد الأقارب، وفور وصولهم تذكر كريم أنه نسي أن يطفئ المدفأة التي تعمل بالكيروسين، وكان صعب المنال بطبيعة الحال، فخرج للعودة للمنزل بين تحذيرات الجميع، وفور مغادرته هوت عليه طلقات الأمريكيين لتمزق جسده أمام أعين أهله.. حاول زيد الخروج لإغاثة شقيقه ولكن والديه منعاه وهما يتمزقان ألمًا على ابنهم الأصغر الذي أخذ ينزف ببطء على قارعة الطريق والقصف يمنع الوصول إليه، حتى فاضت روحه! كان ذلك في الخامس من يناير2007.. ذلك اليوم الذي لم يعُد زيد فيما بعده كما كان فيما قبله.. "لقد تبين لي بعد موت أخي الأصغر أنني لن أكتفي بمساندة المقاومة مساندة غير مباشرة".. ولأنه يرفض تنظيم القاعدة، ويرفض كل مجموعة مسلحة توجه فوهات مدافعها للمدنيين، فقد انضم زيد لإحدى جماعات المقاومة الشريفة التي تحرص على ألا تحارب سوى المحتلين -فقط المحتلين- ولا تنتمي سوى للعراق وأهله. هكذا تحول زيد الفتى المرِح الذي يهوى المقالب ولعب الكرة، إلى زيد الشاب المقاوم الذي يحمل السلاح في وجه العدو. المثير للتأمل هنا أن الفتى -رغم عمق الألم في داخله وشدة غضبه- لم يسارع بالانضمام لأية ميليشيا أو فرقة مسلحة أو جماعة مقاتلة من منطلق رغبته في الانتقام. بل إنه اختار الانضمام لجماعة لا تقاتل سوى قوات الاحتلال, وتترفع عن مهاجمة المدنيين أو إلحاق أدنى ضرر بهم. نقطة نظام هذا -بالتأكيد- ما دفع د.يورجين تودينهوفر لجعل زيد بطلاً لبحثه وكتابه, فزيد -وفقما يرى البروفيسور- يعبّر عن الموقف العربي المسلم السوي من التعرض لاحتلال أجنبي, فهو لا يمارس القتل العشوائي باسم الدين -كما تفعل القاعدة ومثيلاتها- ولا هو يقتل المدنيين ولا يبالي من منطلق أنهم "ضحايا حرب عادلة" و"ثمن للحرية" كما تفعل الجماعات المسلحة المأجورة, بل هو يطبّق المقاومة العادلة كما جاءت في المواثيق الدولية وكتابات فقهاء القانون الدولي الإنساني. لعل من يقرأ الكتاب بدون تدقيق, أو بنظرة سطحية مستهترة يرى أن الكاتب يشجع ويدعم عمليات الإرهاب المتكررة في العراق, ولكن النظرة المدققة والفهم العميق للعمل, يجعلان القارئ يدرك أن د.تودينهوفر ركّز في عمله على التفرقة بين الإرهاب والمقاومة, وإظهار الاختلافات بين هذا وتلك, وتوزيع المسئولية بشكل عادل عن كل حدث مؤسف يقع على أرض العراق, مؤكدًا أن الاحتلال والإرهاب إنما يدوران في دائرة مأساوية مغلقة, فكل منهما يسبب الآخر ويقويه, ولولا وجود العقلاء الشرفاء ممن يفرقون بين المقاومة الشرعية والإرهاب المجنون لطغت النظرة الفوضوية على الأوضاع هناك. نهاية الزيارة بعد تلك الجلسة، وجلسة تالية مع بعض رجال المقاومة في الرمادي تخللتها مناقشات وتبادل بعض الآراء ووجهات النظر، انضم د.تودينهوفر لعائلة أبي سعيد التي كانت تعيش فرحة فوز الفريق العراقي لكرة القدم بإحدى البطولات الآسيوية الهامة. كان المشهد يبعث على التأمل، فالمحتفلون في البيوت والشوارع كانوا من كل الطوائف والأعراق العراقية، وكذلك الفريق المنتصر الذي أصر أن يبقى لمدة 30 ساعة في بغداد رغم التحذيرات باحتمالية استهدافهم. قبل أن يغادر د.يورجين تودينهوفر الرمادي والعراق كله عائدًا إلى سوريا، قابل زيدًا مرة أخيرة وسأله: ألا يرعبه أن يكون هو صاحب القرار في موت أو حياة شاب أمريكي؟ فأجابه الفتى بأن الأمريكيين لم يفكروا في ذلك وهم يقتلون أخويه، وأنهم قد أعادوا انتخاب بوش، رغم سقوط أكثر من مائة ألف عراقي منذ بدء الاحتلال، ورغم سقوط آلاف الجنود الأمريكيين بين قتلى ومعاقين ومصابين بشدة. وأضاف بهدوء: "لا يجب على المرء أن يقف مكتوف اليدين وهو ينتظر أن يُقتَل إخوته.. لا أحد في العالم يقبل ذلك!". هكذا كانت إجابة ذلك السؤال: لماذا يَقتُل زَيد؟ الفرضيات هكذا انتهى النصف الأول من كتاب د.يورجين تودينهوفر "لماذا تقتل يا زيد؟"، أما النصف الثاني فقد أفرده لطرح عشر فرضيات استخلصها من زيارته السريعة للرمادي، ومن مقابلاته مع رجال المقاومة، وكذلك من مشاهدته للحالة الإنسانية المزرية التي تعيشها المدينة، شأن العراق كله.. تلك الفر ضيات سعى من خلالها د.يورجين لعَدل الموازين وإحقاق الحق, مبينًا لكل طرف ما له وما عليه, ومؤكدًا على رسالة كتابه "الفرق بين المقاومة الشريفة والإرهاب". إذ -للأسف- اختلطت أوراق كل منهما بشكل مؤسف جعل كل أطراف الأزمة العراقية -داخليًا وخارجيًا- عرضة لسوء التقدير ووضع الكل في سلة واحدة, فنجد بعض العرب والمسلمين يؤيدون الإرهاب باعتباره مقاومة, وغربيين يدينون المقاومة باعتبارها إرهابًا, بينما الفارق بينهما فارق السماء عن الأرض. عشر أفكار عميقة خرج بها البروفيسور من كل المعطيات سالفة الذكر.. وطرحها بكل قوة وشجاعة في كتابه وهو يعلم أنها ستثير عليه الجدل بالذات من المتعصبين ضد كل ما هو عربي مسلم، طرحها قائلاً بوضوح: "لقد حان الوقت لنفتح أعيننا؛ لأن سياساتنا الراهنة تجاه العالم الإسلامي لا مستقبل لها!". اقرأ أيضا: لماذ تقتل يا زيد؟ (1) لماذا تَقتُل يا زيد؟ (2)