من أكثر الكلمات المستفزة التي سمعتها في حياتي هي كلمات المعلق الرياضي (ميمي الشربيني) في مباراة مصر والجزائر عندما قال أن أحلام المصريين معلقة بين أقدام لاعبي منتخبنا. وقتها صدمني التعبير وشعرت بنوع من الإهانة، لكن كلما أمعنت النظر فيه اكتشفت أنه يلائم الوضع بالضبط. تذكرت أيضاً مشهد غرق العبارة (السلام 98) في الثاني من فبراير 2006، وخرجت الجماهير لتحتفل بفوز فريقنا في بطولة كرة قدم في العاشر من نفس الشهر، متناسين أكثر من ألف جثة تلتقمها الأسماك أو تائهة في مشارح الدولة أو بعضها كان محظوظاً ان تلقى تكريم الدفن على أرض أهلها. الرياضة في حد ذاتها رسالة تواصل بين الشعوب والحضارات، لا يمكن لأحد أن يشكك في دورها الحضاري منذ ألعاب الأولمبياد في بلاد الإغريق حتى الآن، لكن عندما تزداد حدة المنافسة إلى درجة غير مقبولة، عندما نتشبث بآمال الرياضة على أنها شرف وطني عظيم، عندما تنعقد الآمال في العزة والكرامة بين الأقدام، علينا أن نتعقل قليلاً لنفهم إلى أين نحن سائرون. استطاعت وسائل الإعلام أن تسطح المفاهيم وتختزل المشاعر في أشياء ضيقة، فعلم مصر صار يمثله تي شيرت لاعب منتخب مصر، وأرض الوطن هو الملعب، والكرامة الوطنية هي قطعة من الكاوتشوك يتم ركلها على النجيلة. عندما تواجه أحد هؤلاء الذين تم تسطيح المفاهيم عندهم، بضرورة ألا تجعلنا مباراة ننسى كم المشاكل والكوارث التي تحتاج إلى علاج، تجده قد أصابته الانفعالية والاحتداد وصار صوته كمن عنده اللحمية، وتتوالى الحجج : - ياعم فيها إيه لما أفرح شوية؟ ما المشاكل طول عمرها في البلد ! - وأنا بإيدي إيه يعني عشان أحل المشاكل دي ؟ - يا عم أنا تافه، بس سيبوني أفرح يومين، انتو مستكترين الفرح عليّ ليه؟ يا سيدي افرح، الإنسان يشاهد فيلماً مدته ساعتين أو يقرأ رواية لمدة يومين، ثم تنتهي حالة الارتباط الشعوري مع قصة الفيلم أو حبكة الرواية، ويعود الإنسان إلى حياته وهمومه مرة أخرى، ما هو غير مقبول حالة التضخيم المبالغ فيها التي تجعلك تهتم بأي مباراة قبلها بأسبوعين وبعدها بأسبوعين. ماذا تصف إنسان لا يحترم أحزان الآخرين ؟ شخص يرفع صوت الراديو على نجوم إف إم كي يصل إلى جيرانه المكلومين في فقد عزيز عندهم ؟ اختر الوصف الذي يناسبك، ولا تنس أن تضعه على مشهد 10 فبراير الذي ذكرته بالأعلى! هل يمكن بالكرة أن تجعلنا نتدهور في أخلاقياتنا إلى هذه الدرجة ؟ لقد جعلتنا في حقيقة الأمر أسوأ ! لقد أوصلتنا إلى مرحلة من الكذب الجماعي، فرفضنا مثلاً أن نصدق أن طوبة كسرت زجاج الحافلة الجزائرية، ورأينا اللاعبين الجزائريين مهتاجين وهم يكسرون النوافذ – وهذه قلة أدب منهم بلا شك- لكن ظللنا نردد حكاية الكاتشاب وأن الجروح مزيفة، ويبدو أننا الوحيدين المقتنعين بصحة ذلك إلى الآن. رفضنا أن نعترف بوجود مصابين في صفوف المشجعين الجزائريين الذين حضروا القاهرة، رغم أن وزارة الصحة سجلت إصابة 31 شخصاً، وأضافت السفارة الجزائرية إلى هذا العدد عشرين آخرين ! قد تحتج يا عزيزي القاريء، وتقول أن طابع التكتم و (كل حاجة تمام يا سعادة البيه) مطبق في الدول العربية جمعاء، لكن الوضع يختلف بالنسبة إلى مصر، فطالما أن جهازنا الرسمي الحكومي قد اعترف بشيء، علينا أن نتعامل معه على الفور، وأن نعتذر حتى لو اعتقد البعض أنه ما كان ليمنع أحداث السودان المؤسفة. هل تعتقد حقاً أن مظاهر الغضب لما حدث لمشجعينا في الخرطوم هي من مظاهر الكرامة القومية والحماس الوطني؟ لو كان الأمر كذلك لاحتججنا على ما حدث لمواطنينا الذي يُجلدون أو تنهب مرتباتهم في الخليج، أو للأبرياء الذين قتلوا برصاصة قناص أو بقذيفة وحشية استهدفتهم على حدودنا مع إسرائيل، أو الضغط على وزارة الخارجية كي تقوم سفاراتنا في الخارج بحماية رعايانا. لكن تحركنا هذه المرة بالذات يعني وجود عامل آخر غير الكرامة والوطنية. ما حدث أمام سفارة الجزائر هم مجموعة تم تسطيح مفهوم الكرامة الوطنية في شكل كرة، والعدو هو مجموعة من اللاعبين الخضر، وهكذا ازداد جو المسرح عدائية وعنفواناً حتى صار مهيئاً لاستقبال الأعداد الغفيرة من الشباب، الذين حركتهم صور ذهنية مشوشة خلطت بين الملعب والوطن، والكرة والكرامة، واللاعبين والعدو. إذن لعبة الكرة، قادتنا إلى الهياج، ساعدت في اختزال المفاهيم، مروراً بالكذب الجماعي والضحك على الذات، حتى وصلنا إلى المرحلة البائسة التي لا يحركنا فيها إلا كرة، ولا يستنهضنا شيء إلا نتائج مباراة. وأنا لا أقصد ألا نرد على ما فعله حفنة أوغاد في الجزائر، لكن لو ظلت اتهاماتنا معممة: جزائريون، قلة من الجزائريين، متعصبين جزائريين، إلخ... فنحن لن نصل إلى نتيجة إلا ارتفاع حالة المد من السخط والمشاعر قبل أن يهدأ كل شيء مجدداً. لا بد من توجيه اتهامات محددة بشأن وقائع محددة لأشخاص بعينهم، وأنا أقترح أن نبدأ بعمل تقرير مفصل بكل ما احتوته الصحف الجزائرية من إهانات بحق مصر والمصريين، كما يجب اتخاذ ردود دبلوماسية وقانونية رادعة حتى لو انتهى الأمر إلى قطع العلاقات مع الجزائر، أو رفع الأمر إلى محكمة دولية مختصة لمحاكمة المسئولين والمتورطين في أعمال الشغب في الخرطوم. الكرة تحولت من مجرد هواية للتسرية عن النفس، إلى مخدر لذيذ لا يريد صاحبه أن يفيق منه، تحولت من وسيلة لهو إلى أداة إلهاء للمصري عما يحدث في بلاده حتى لا يواجه الواقع، وعندما تحاول مع المريض أن تقلل جرعة التعاطي لن تجد إلا نوبات هيستيرية من الغضب والهياج.