لست أظن، ولو للحظة واحدة، أنني سأستطيع، مهما طال بي العمر، أن أنسى هذا التاريخ الحزين.. الأربعاء، الحادي والعشرين من سبتمبر، عام ألفين وإحدى عشر.. ففي هذا التاريخ، فقدت من كنت أعتبره أصدق الأصدقاء، وأعظم الأساتذة، وأفضل المعلمين في حياتي، بعد والدي رحمه الله.. إنه أستاذي، ومعلمي، وأبي الروحي، الأستاذ حمدي مصطفى، رئيس مجلس إدارة المؤسسة العربية الحديثة، ورائد الكتاب المدرسي في مصر، وصاحب مشروع القرن الثقافي "روايات مصرية للجيب"، الذي خرج منه عدد من المؤلفين الشبان، الذين صاروا اليوم من الأسماء اللامعة في عالم الرواية وسماء الأدب.. في ذلك اليوم الحزين، وفي السابعة والنصف صباحاً، بلغني الخبر.. كنت أعلم أن أستاذي الرائع يعاني من مرض مؤسف، أقعده لأكثر من عامين، وأنه أصيب منذ عدة أسابيع بتدهور عام في صحته جعله أسير غرفة عناية مركَّزة في أحد المستشفيات، ومقَّيد إلى جهاز تنفس صناعي، على نحو لم يكن من الممكن تصوَّره بعد أن عهدته طوال سبعة وعشرين عاماً شعلة من النشاط والحيوية، وصاحب عقل متطوَّر مبتكر، وقلب يبدو الذهب إلى جواره حديداً صدئاً.. وعلى الرغم من أن عيني لم تعتادا البكاء، حتى في أعقد المواقف، وأشد الخطوب، فقد فوجئت بهما، ودون أن أشعر تسيلان على وجهي بدموع من نار، لا أتصور أنها تكفي للتعبير عما كنت أشعر به لحظتها.. ففي وجوده، كنت أشعر دوماً بنوع من الأمان والارتياح، وبأنه سيكون دوماً إلى جواري، وسيحمي ظهري، في أية لحظة أمدّ يدي فيها إليه... وهذا ما كان يفعله، منذ بدأت معرفتنا، وحتى تطوَّرت إلى صداقة من نوع خاص، جعلته الإنسان الوحيد في العالم تقريباً، الذي يمكنني أن أفرغ عنده مكنون قلبي، دون أن أخشى شيئاً، وأنا الذي عرف عني كل من عرفته في حياتي بأن الكتمان هو جزء من شخصيتي، وسمة من سماتي.. وكان دوماً -رحمه الله- يبادلني بالمثل.. كان دوماً يفضي إليَّ بما يجيش به صدره، حتى مشكلاته الشخصية، ومخاوفه العامة، وأستشيره ويستشيرني في كل ما يواجهنا.. وكانت بيننا دوماً حالة من الثقة، لم أجد مثلها إلا في القليل من الناس.. والقليل جداً.. جداً.. ولكي يستوعب أحدكم مقدار هذه الثقة، يمكنني أن أقول إن أيا منّا لم يكن ليتردَّد لحظة في إن يوقّع ورقة بيضاء، ويناولها للآخر، واثقاً تمام الثقة من أنه لن يسيء استغلالها مهما كانت الظروف... فكم من الأصدقاء يمكنك أن تحظى معهم بهذا؟! كم؟! لعلكم تدركون الآن كم أنا حزين... متألم... آسف... لقد استنكر عقلي الخبر، حينما سمعته، على الرغم من أن الموت هو الحقيقة الوحيدة المؤكَّدة، في حياة كل بشري... وحتى عندما كنّا نصلي صلاة الجنازة على روحه الطاهرة، لم أكن قد استوعبت بعد أنني وأبداً لن أراه مرة ثانية.. لن أجالسه.. لن أقصّ عليه همومي.. ولن يقصّ عليَّ همومه.. وحتى عندما واروه الثرى، رفض عقلي تصديق هذه الحقيقة المرة.. لقد غاب الفارس.. غاب عن عالمي.. غاب عن مشروع عمره الثقافي.. غاب عن الدنيا.. وبقيت أعماله.. ففي هذا الخلود الحقيقي.. فليس الخلود أن تعيش أبد الدهر، ولكن الخلود أن تحيى أعمالك وأفكارك من بعدك.. ولهذا فإن الفارس سيبقى.. سيبقى خالداً، حتى وإن أفني الدهر جسده.. سيبقى في عطاياه.. في ذكرى من أحبوه.. في الخير الذي أفاضه على من حوله.. وفي مشروعاته الثقافية العملاقة.. في كل من كُتب له دخول عالم الأدب على يديه.. سيبقى كلما أمسك أحدكم رواية من "روايات مصرية للجيب".. كلما طالعتم صفحة منها.. أو سطرا.. أو حتى كلمة.. ففي مرحلة تالية، وبعد نجاح مشروعه العظيم "روايات مصرية للجيب"، رأى رحمه الله، ضرورة أن يتيح الفرصة أكثر للمزيد من الأقلام الشابة، وكان الناشر الوحيد في مصر الذي تبنى المواهب الشابة، وأتاح لها فرصة الظهور.. ومن هنا.. أنشأ ضمن سلاسل روايات الجيب، ما أطلق عليه اسم "سلة الروايات".. وكانت "سلة الروايات" هذه سلسلة مفتوحة، فتح بابها على مصراعيه، لكل قلم شاب، وكل موهبة، لم تأخذ حقها في الظهور.. وتوالت الأسماء على "سلة الروايات".. وتوالت المواهب.. والأفكار.. والإبداعات الشابة.. كان -رحمه الله- شديد الاهتمام بالمواهب الشابة، حتى إنه ذات يوم ترك أحدهم في المطبعة خطاباً عن تفاعله مع الروايات.. وقرأ الأستاذ حمدي الخطاب.. وبحاسّته الأدبية رأى فيه موهبة واضحة.. وعلى عكس ما يحدث، في كل دور النشر تقريباً، جعلنا الأستاذ حمدي نبذل جهداً خرافياً؛ لمعرفة من ترك هذا الخطاب.. وعندما عثرنا عليه ضمّه إلى عالم الروايات.. وكانت صورة جميلة، تشفّ عن روح الأديب في داخله.. فالأستاذ حمدي، لمن لا يعلم، ليس ناشراً فحسب.. إنه أيضاً أديب كبير.. والتعريف هنا ليس مجازياً، بل حقيقة، تعرفها كتبه التي ألفها في شبابه، والتي تحوَّلت إلى روايات مقرَّرة على بعض السنوات الدراسية، في ذلك الحين؛ مثل "جول جمال"، و"بطولة سفينة"، و"أيام عصيبة في أبو عجيلة".. وهكذا كان يجمع بين الحسنيين.. بين الكاتب.. والناشر.. وربما لهذا كان دائم البحث عن المواهب الشابة.. فيصقلها.. ويُبرزها.. ويمنحها فرصة عمر، لم يعد هناك من يمنحها، في زمننا هذا.. رحل الفارس، وترك لنا ذكراه.. وترك لي بالتحديد، عددا لا يُحصى من ذكرياتي معه.. تلك الذكريات، التي أعود بها معكم إلى البداية.. إلى اللقاء الأوَّل.