قد يعتقد البعض أن الأدب منفصل عن السياسة، أو على الأقل أن السياسة قد تكون أحد التابوهات التي يحظر على الأديب الاقتراب منها في ظل بعض الأنظمة التعسفية. والواقع يقول إن السياسة هي عنصر فاعل في المجتمع، وكل عناصر المجتمع تخضع تحت مظلة الأدب. ولعلنا نتذكر أستاذنا العظيم (نجيب محفوظ) وقصصه الرمزية في نقد المجتمع أثناء الفترة الناصرية؛ لا سيما في قصة (تحت المظلة)، ثم إبراز مظاهر السلطة الديكتاتورية في رواية (الكرنك) بعد وفاة (عبد الناصر)، وبعد أن خفت حدة مقص الرقيب، أو العبقري (جورج أورويل) في رواية (1984)، وهو ينتقد النظم الشمولية في عالم تخيلي رهيب. والسياسة قد ترتبط بالأدب من وجه آخر؛ فقد يعمل أحد الأدباء في مجال السياسة مثل (ميخائيل شولوخوف) الذي كان عضواً في المجلس الأعلى السوفيتي ومقرباً من زعماء الاتحاد السوفيتي، ومع ذلك شرف بلاده بحصوله على جائزة نوبل للآداب 1965، أو الكاتب (يوسف السباعي) والذي شغل عدة مناصب حكومية في مصر أبرزها وزارة الثقافة، ودفع حياته ثمناً لمواقفه السياسية.. وهناك أدباء لا ناقة لهم ولا جمل بالسياسة، وعندما يتورطون فيها فإنهم يفسدون الأجهزة الإدارية التي يتولونها، أو يطلقون تصريحات نارية لا تتناسب مع مقامهم الأدبي متسببين في تصاعد الأزمات بين الدول.. ولعل هذه المقدمة الطويلة جاءت بسبب تصريحات الأديبة الجزائرية (أحلام مستغانمي) ضد مصر والرئيس مبارك، تلك الأديبة التي دغدغت المشاعر الرومانسية عند قرائها قبل أن تزعزعهم بتصريحاتها الصادمة. تلك الأديبة التي وصفها (نزار قباني) عندما خرجت أمامه من بركة السباحة في أحد فنادق بيروت ب "(سمكة دولفين جميلة)، وأن روايتها (ذاكرة الجسد) قد دوّخته بسبب تطابق النص مع شخصيته فهو -أي النص- مجنون، ومتوتر، واقتحامي، ومتوحش، وإنساني، وشهواني" وخارج عن القانون مثل شاعرنا. ويبدو أن (مستغانمي) تحمل بعض الصفات التي أطلقها (نزار) على روايتها؛ فالتوتر والاقتحام والخروج عن القانون كانت سمة تصريحاتها المسيئة لمصر والتي نقلتها جريدة (الشروق الجزائرية)، وتعففت عن نقلها سابقاً، ربما انتظاراً لتكذيب (مستغانمي) لما ورد على لسانها؛ لكن بمرور الأيام وذكر هذه التصريحات في جريدة (الشروق الجديد) المصرية، وهي الجريدة واسعة الانتشار، جعلني أفكر في الأمر من منظور مختلف. دعونا أولاً نتأمل هذه التصريحات، انتقدت (مستغانمي) الرئيس مبارك لأنه لم يكن في استقبال اللاعبين الجزائريين على أرض المطار، ومع ذلك حضر تدريب المنتخب المصري! وتدعي أن ذلك هو سبب الاعتداء على بعثة المنتخب الجزائري! ونقلاً عن (الشروق الجزائرية) ودون أي تعديل مني: ]وفي سياق متصل قالت أحلام: إن الإهانة ذهبت إلى أبعد من ذلك عندما تمت إهانة العلم الجزائري "في بلد يرفرف فوقه العلم الإسرائيلي ويحمي فيه الأمن المصري أبناء إسرائيل"، واستطردت مستغانمي قائلة: شكرا للذين حققوا لإسرائيل أمانيها بما يفوق أحلامها الأبدية، ودعت مستغانمي مصر "العربية وباسم 36 مليون جزائري للاعتذار للعَلم[. انتهى الاقتباس واستمر حرق الدم! لن أرد على هذه الادعاءات، لن أقول إن كل ما ذكرته (مستغانمي) حدث بالحرف؛ ولكن في الجزائر ضد بلدي، لن أقول أن ما حدث في مصر -إن صدق حدوثه- لا يعبر عن كل فئات هذا الشعب العظيم. هذه الردود قد تستهلك المقالة في الرد على اتهامات سخيفة لن تقرأ (مستغانمي) حرفاً منها. أنا أتحدث عن قضية أوسع، عن الأديب عندما يتكلم أو يفكر، الأدب بطبيعة الحال -أحد مظاهر الرقي- في أي حضارة بشرية، وعموماً يتميز من يكتب بحرصه على فهم العلاقات الإنسانية وكشف أغوار النفس البشرية، وهذا يجعل الأديب متفهماً للآخر ومبتعداً بالتالي عن التعصب. وأنا لا أقول أي كاتب هو (بوذا)، فمن الطبيعي أن نرى أي إنسان -حتى ولو كان كاتباً- عصبياً عندما تنقطع المياه عنه وهو يحلق لحيته مثلاً! لكن عندما يجلس للكتابة، وعندما يصغي إلى تجربة إنسانية جديدة عليه، وعندما يصدر تصريحات إلى الصحف أو التليفزيون؛ فإن صوت الخبرة الإنسانية التي تراكمت أثناء احتكاكه بالناس يبدأ في العلو على حساب ضوضاء الحياة اليومية وهمومها. إذن ما تفسده السياسة، ما تفسده الرياضة، ما تفسده ضوضاء الحياة عموماً، يسعى الأدب إلى إصلاحه عبر اختراقه الحدود الجغرافية والسياسية، ونقل تجارب إنسانية جديدة تزيد من التواصل؛ لكن أن يتم الزج بالأدب في هذه الصراعات؛ فهو أمر مهين للثقافة بشكل عام التي تنخرط في مشاكل ضيقة. التصريحات نُشرت بتاريخ 14/11، واليوم 17/11 أي ثلاثة أيام، ولا رد أو تصحيح أو تعقيب من (مستغانمي) عما قيل على لسانها في أكبر جريدة جزائرية، أتمنى حقاً أن ينزل هذا التصحيح في أقرب فترة ممكنة، وأن يكون الخبر كاذباً؛ لأن العلاقات والمصالح تتغير بمرور الوقت؛ لكن سقوط اسم أدبي كبير في أوحال السياسة خسارة كبيرة لمفهوم الثقافة والوحدة الثقافية.