هذا الكتاب الذي نحن بصدده الآن من الكتب التي تتآلف معاها سريعاً، تشعر أنك واحد من أبطالها، تتحدّث بلغتك وتحكي عن مواقف ربما عشتها أو عايشتها أو كنت مستمعاً لمن تعرّض لها، وهذا الكتاب تحديداً سوف تشعر بالحميمية معه؛ لأن وحدته الموضوعية هي المكان، والمكان الذي يتناوله الكتاب هو المكان الوحيد الذي يجتمع فيه كل شباب الجيل والأجيال السابقة.. المقهى أو القهوة! كلنا نجلس على المقهى نشرب الشاي والمياه الغازية، ونتحدّث مع الأصدقاء ونتفق على أعمال ونتناقش في كافة المجالات، وتُصادفنا مئات المواقف الطريفة التي لا نتوقف عندها كثيراً، ولكن الممتع أن تجد من تنبّه إلى هذه المواقف وفَطِن إلى ما فيها من تحليل لشرائح مهمة من المجتمع المصري، وعالَم نقف كلنا على بوابته دون الولوج إلى أحشائه، والجميل أن يكون من ألّف الكتاب صديقان لا ينفصمان، وكل منهما يروي لقارئه قصة وطرفة من هذه النوادر التي قابلاها في رحلتهما الممتدة في دنيا المقاهي! الكتاب هو "قهوة المصريين" الذي صدر مؤخراً عن دار الشروق لمؤلفيه الروائي الشاب محمد كمال حسن والشاعر الشاب مصطفى الحسيني، شابان أديبان جمعهما -نظراً لصداقتهما وعملهما المشترك- العديد من المواقف التي تشترك فيها وحدة المكان وهي المقهى.. والكتاب من عنوانه ومن قضيته التي يتناولها يلمع حسه الساخر الواضح الذي تدفّق بطول الكتاب، واقتسم الكاتبان الكتاب الذي يتكوّن من سبع عشرة قصة، فكتب كل منهما نصف الكتاب تقريباً بالتبادل، فيكتب محمد قصة ويتبعه مصطفى بقصة أخرى وهكذا حتى نهاية الكتاب. تتنوع لغة الكتاب فتارة يستخدمان الفصحى الرصينة، وتارة يستخدمان الفصحى المطعمة بالعامية، وتارة يستخدمان العامية الأصيلة، مع تثبيت أن تكون لغة الحوار بينهما في كل الكتاب هي اللغة العامية، مما أضفى على الكتاب حميمية محببة تشعرك بأن الكاتبين يجلسان معك ليَقُصّا عليك القصة! ومن أجمل ما يلفت نظرك في الكتاب أن الكاتبين لا يخجلان أن يسردا أي تفاصيل تنقص من قدرهما مثلاً أو يظهرا بطولة وهمية، حتى ولو كانت هذه التفاصيل تتعلق "بتثبيتهما" في مقهى "أولاد كريم" الذي ضاع من على يافطته حرفا الدال والميم لتصبح اليافطة "أولا.. كري..".. ذهب الكاتبان إليها باللاب توب والشنطة انتظاراً لموعد ما، دون أن يعرفا أن القهوة لا يجلس عليها إلا العمالقة أولاد كريم، يقول محمد كمال في جزء من تلك الحكاية: "حوالي عشرين فرداً من عائلة كريم كانوا يُحيطون باللاب توب كأنهم يتفرّجون على الساحر، هممت بأن أقول للحسيني أن يكتفي، لكن شخصاً ما أتى من عند النصبة مباشرة علينا، ثم مدّ يده فأخذ اللاب توب من فوق الطقطوقة وأعطاه لواحد يقف إلى جواره، ثم أخذ الحقيبة السوداء وأعطاها لشخص آخر ثم أخذ الحقيبة البني وأعطاها لواحد ثالث... التفت إلينا وصرخ: - أنتم لسه هنا؟ أتى توفيق وأخذ زجاجتي الشويبس، فقلت للحسيني: - هنشد إحنا بقى يا حسيني. ثم قلت للرجل (إنسان الغاب طويل الناب): - هنستأذن إحنا بقى يا معلم. انصرفنا بهدوء شديد ثم قال الحسيني ونحن ننظر إلى المقهى من الرصيف المقابل: - إحنا بنتقلّب يا أبو كمال. - إحنا اتقلّبنا فعلاً يا ريس!" هذه البساطة الشديدة في التناول والمفردات الحياتية البسيطة، هي التي تُسبب لك هذا الجو من الألفة والبهجة وأنت تقرأ كتاباً يحكي عنك، بل ربما تكون أنت أيضاً ضحية لعملية تثبيت في أي مقهى آخر! والكتاب رغم أنه ساخر إلا أن الكاتبين دائماً ما يصرّان على أن يذكرانا بأنهما أديبان بالأساس، فأولهما روائي والثاني شاعر، فتجد دائماً لمحات من الصور الجميلة والتركيبات المدهشة والرومانسية المفتقدة في أجمل قصص الرومانسية، اقرأ معي مثلا ما كتبه مصطفى الحسيني وهو يحكي حكايته مع والده الراحل عندما أخذه معه في أول زيارة مشتركة لقهوة وهو طفل.. واقرأ بتمعن هذه الكلمات التي استهل بها حكايته قائلاً: "أعرف أن أبي "يقاوح" ولا يريد أن يصدق أنه مات من أكثر من سنتين.. ماااات، (طب أفهمه إزاي!!)، لكني أحبه وأصدّقه وأتركه يحكي -وليس أفضل من هذه الفرصة ليأتيني وأنا أكتب عن المقاهي وأحكي عنها- تمنينا دائماً أن نكون صديقين، أن أسمعه ويسمعني بلا تكلّف، وينتهي الكلام بيننا بأن أحضنه مثلا وأشكره على سعة صدره، وأن يشكرني لأني أحسن صديق له، أن أطلب منه ألا يقول لأحد ما قلته له، فأنا أثق به كصديق، وأن يؤكد هو عليّ ألا أقول ما قاله لي لأمي ويترجاني ثم يهدد في النهاية بأنه سيقطع صداقته بي إن خرجت كلمة، واحتمال يقطع المصروف والمعونات كمان، تمنينا وتمنينا وتمنينا.. حتى قلت له وهو يرقد في آخر مستشفى: - عاجبك كده يا عم الحاج؟؟.. آديك بتموت" هذه الكلمات المؤثرة التي صدّر بها مصطفى حكايته، لا تتعارض أبداً مع سرده الساخر لما وقع بينه وبين والده في المقهى بعد ذلك، فالجميل في الكتاب هو هذا الربط الممتع الذي يتفنن فيه المؤلفان لحسهما الأدبي المسبق، كيف تضحك وتبكي وتتأثر في نفس الوقت.. بحيث ألا تعرف هل دمعتك التي نزلت على خدك توا.. من كثرة الضحك أم من كثرة الوجع؟؟ إن كتاب "قهوة المصريين" حالة جميلة تأخذك معها بسلاسة دون جهد، وذكاء المؤلفين أن جعلا قضية الكتاب ومكانه الذي يدور حوله يتمثل في المقهى، هذا المكان المعتاد لمصر كلها بزحمته وبسماته ومواقفه ونوادره وكافة الطوائف التي تجلس فيه، حتى أن أحد أصدقائي العرب في تعريفه لمصر قال لي: "إن مصر بلد عربي.. به قهاوي"!