"وتقدّرون فتضحك الأقدار".. عبارة كنت أسمعها في الأفلام المصرية القديمة، ولم أدرك ما تعنيه حقاً، بقدر ما أدركته مع الأحداث الأخيرة.. يد الغدر امتدّت إلى كنيسة القديسَيْن في الإسكندرية، وجاء أحدهم بتفكير مختلّ؛ لينسف نفسه، ويقتل عشرات الضحايا، ويسقط عشرات المصابين، ويحوّل عشرات الأطفال إلى أيتام، وعشرات الزوجات إلى أرامل، ويحيط بالبؤس والشقاء عدة أسر، لم يرتكب ضحاياها ذنباً، سوى أنهم كانوا هناك، عندما خدعه الشيطان، وصوّر له أن الجنة في قتل الأبرياء! من الواضح أن من فعلوها لم يستهدفوا المسيحيين.. ولا حتى المسلمين.. بل استهدفوا مصر.. كل مصر.. استهدفوا نظام حكمها.. وأمنها.. وشعبها.. ووجودها.. استهدفوا إحداث فتنة عنيفة، وهستيريا أمنية شديدة، ونيران تشتعل في النفوس، على كل المستويات.. كان هذا ما قدرّوه.. وليس ما نالوه.. فعلى عكس كل التوقّعات، وبردّ فعل شعبي طبيعي، شفّ عن المعدن الحقيقي لكل مصري يعيش على أرض هذا الوطن، عندما تعاطف الشعب كله، بكل فئاته، وكل طوائفه، مع الموقف.. ولأوّل مرة، منذ ثورة 1919 يرتفع شعار غاب معناه عنا كثيراً، في العقود الثلاثة الأخيرة.. شعار "الهلال مع الصليب".. شعار يعلن أننا شعب واحد.. في وطن واحد.. شعار انتشر بين معظم فئات الشعب، وخاصة الشباب، الذين وضعوه في كل مواقعهم على شبكة الإنترنت.. وضعوه في مواقعهم.. وفي قلوبهم.. وفي عقولهم.. وخسرت يد الغدر معركتها.. وفازت مصر.. وشعب مصر.. ولكنه -مع الأسف- ليس فوزاً كاملاً.. فهناك عقول ما زالت ترفض فكرة الوطن الواحد، وتصّر على فكرة التفرقة، وفصل الشعب عن بعضه.. والمؤسف أنهم يفعلون هذا تحت شعار الدين.. ولست أدري في الواقع أي دين هذا.. الدين الذي اعتنقته، وأدين به، وأؤمن بربه ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فتح بلاداً عديدة، ظل الكثير من سكانها على دياناتهم وعقائدهم، وآمن البعض الآخر.. وتعايش الطرفان.. من آمن بالدين الجديد... ومن لم يؤمن به... ولم نقرأ في صفحة واحدة من صفحات التاريخ، أن رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- أو صحابته، أو قادته، أو أحدًا من أتباعه، قد أساء إلى نصراني واحد.. ولا حتى لوثني واحد... هذا لأنهم جميعاً كانوا يتبعون ما أمر الله سبحانه وتعالى به.. الدعوة إلى سبيله بالحكمة.. وبالموعظة الحسنة... فأية حكمة في قتل الأبرياء؟! وأية موعظة حسنة في إراقة الدماء؟! ثم ما الهدف الأسمى من الحكمة والموعظة الحسنة؟! الهدف هو أن تكون صورة جميلة وسمحة لدينك.. صورة تبهر الآخرين، وتدفعهم للتفكير في دخول الدين.. ولو أن يد الغدر تفهم الدين حقاً، أو تبالي به كهدف رئيسي؛ لأدركت أن لجوءها إلى العنف هو خروج عما أمر به خالقها عزّ وجلّ.. وطغيان على حكمته.. فالعنف لم يكن، ولن يكون أبداً، سبيلاً للدعوة إلى دين الله عزّ وجلّ.. احسبها أنت.. هل يمكنك أن تفكّر، مجرّد تفكير، في دخول نادٍ حتى، لو أن مسئول العلاقات العامة به يعاملك بعنف وشراسة؟! هل ستحاول الالتحاق بمدرسة، يضربون فيها كل من يخالفهم الرأي؟! هل يمكن أن تجازف بقبول وظيفة، يفصلون كل من يخالفهم فيها، حتى ولو كانوا على خطأ بيّن؟! كيف إذن يتوقّع البعض أن يكون العنف والشراسة، والقتل والدم، والتهديد والوعيد، هو السبيل إلى دعوة الناس لدين الحق؟! كيف؟! كيف؟! كيف؟! ثم أين طاعة الله سبحانه وتعالى في هذا؟! أين طاعة أوامره باستخدام الحكمة والموعظة الحسنة؟! ألم يحذرنا -جلّ جلاله- من أننا لو كنا أفظاظاً غلاظ القلب؛ لانفضّ الناس مِن حولنا؟! فماذا لو كنا شرسين، عنيفين، قتلة، قساة، لا نرحم؟! ماذا؟! وألف ماذا؟! هل أصاب العمى أتباع يد الغدر إلى هذا الحد؟! ألم يعد أحدهم يرى الدين على حقيقته؟! لست أستطيع فهمهم في الواقع!! أو حتى استيعاب منطقهم!! فلست أطيع سوى ما أمر به خالقي -عزّ وجلّ- فلا أترك نفسي للهوى، ولا أحيد عما أمر به، وأصرّ على أن أكون من الكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس... وهذا ما فعله معظم شبابنا.. ولكن على النقيض منهم، تركت مجموعة كبيرة الهدف، وواصلت حربها التي لم يطلب الدين إشعالها.. العديد غضبوا من وضع الهلال مع الصليب، في شعار واحد.. غضبوا؛ متصورين أن غضبهم هذا هو تعبير عن شدة إيمانهم، ولم يروا أنه في الواقع، تعبير عن ضعف نفوسهم، وعدم ثقتهم في قوة دينهم.. فالهلال رمز، لم يرد في القرآن الكريم، أو الأحاديث النبوية، وإنما اختاره بشر، ليرمز إلى دينهم.. والصليب كذلك، لم يوصِ به السيد المسيح -عليه السلام- بل اتخذه من بعده بشر؛ نسبة إلى معتقداتهم، ليصبح رمزاً لها.. الصليب إذن رمز بشري، وكذلك الهلال... والشعار الذي يجمعهما هو رمز لوحدة الوطن، في ظل العقيدتين.. مجرّد رمز.. يا أولي الألباب.. لو كنتم من أولي الألباب.... ولستم ضمن أصابع اليد.. يد الغدر... الخسيسة. لقراءة أعمال د. نبيل فاروق السابقة اضغط هنا