الموضوع الذي أثرته في المقال السابق، عن طاعة الوالدين، أثار حتماً موجة من الغضب والاستنكار والاعتراض، وربما لهذا السبب بالذات، تعَّمدت إثارته في المقال الأول، وربما أيضاً لأثبت أن الكل سيعترض، ويستنكر، ويثور، ولكن القليل جداً جداً سيحاول التفكير في الأمر.... القليلون جداً، هم من لن يؤكدوا أن هذا ما وجدوا عليه آبائهم، ولن يصرّوا على أن ما قيل لا تجوز مناقشته، وأن ما اعتدناه هو الصواب المجهول.... وهذا هو بالضبط موضوع هذه المقالات..... التزامنا بطقوس وقواعد، نأبى التفكير فيها أو مناقشتها فقط؛ لأن هذا ما سمعناه، وهذا ما اعتدناه!!.... البدو الذي نطلق عليه اليوم اسم الكفار، عندما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم، برسالة الهدى، كانوا قد نشأوا وتربوا على عادات ونظم وقواعد، يرون أنها وحدها الصحيحة، وما سواها فسق وفساد، وكفر بآلهتهم، ورفضوا رفضاً باتاً مجرَّد التفكير فيما أتى به، ثم لم يكتفوا بهذا؛ وإنما راحوا يحاربون، في عنف وقسوة وشراسة، كل من يستمع إليه، أو يؤمن بما أتى به من الهدى، وعندما قيل لهم استمعوا فقط وفكَّروا، ثاروا وغضبوا، وقالوا هذا ما وجدنا عليه آباءنا، أفلو كان آباؤهم لا يفقهون شيئاً ولا يعلمون.... وأولئك القوم لم يكونوا ملحدين، كما يحاول البعض تصويرهم أحياناً؛ بل كانوا يعبدون آلهة، رأوا فيها صورة الخالق عزَّ وجلَّ، على الرغم من أنها لم تكن سوى أوثان، تغنيهم عن القنوات الفضائية، والتسجيلات الصوتية، والصراخ والعويل في كل وسائل الإعلام الممكنة..... أوثانهم كانت سبيل دعاياتهم، ونجحوا بواسطتها من جلب المنطقة كلها إليهم؛ لتعبد آلهتهم، وتثري تجارتهم، وتصنع منهم قبيلة قوية، ومجتمعاً مسيطراً، جاء محمد عليه الصلاة والسلام ليهدم أساسه، وينشر مبادئ جديدة، تدعو الناس إلى التفكير، ونبذ ما لقنهم إياه الأجداد، والنظر إلى عبادة الخالق من منظور جديد.... وانقسم الناس إلى قسمين...... قسم أعمل عقله، ولم يسجنه فيما تلقَّاه من آبائه وأجداده، وتفكَّر فيما يقوله رسولنا الكريم، صلوات الله وسلامه عليه؛ فآمن، وصار من المؤمنين.... وجزء ركبه عناده وكبرياؤه، ورفض أن يعمل عقله، ولو لحظة، وأصر على أنه يسير على الطريق الصحيح، وأن هذا ما اعتاده، ونشأ عليه، وما وجد عليه آباءه وأجداده، ولن يغيَّره، أو يفكَّر حتى في تغييره؛ فسجن عقله في نشأته، وحاصره فيما تم تلقينه به، ولم يكن من أولي الألباب، ولا من قوم يتفكرون، أو قوم يعقلون، وتشبَّث بما هو عليه، و...... وكفر... كفر لأنه رفض أن يعمل عقله.... ولأنه أصَّر على ما وجد عليه آباءه وأجداده.... ولأنه مكابر..... ولأنه ليس ممن اصطفاهم الخالق عزَّ وجلَّ..... ليس من أولي الألباب.... والقول بأن الكفار كانوا يعرفون أن محمداً على حق، ولكنهم يكابرون، هو قول شديد الحماقة في الواقع، فالإنسان قد يحارب من أجل أي شيء لا يؤمن به؛ إلا الدين..... فمن رابع المستحيلات أن يحارب شخص من أجل دين، يوقن بأنه غير صحيح، وإلا كان من الأجدى له ألا يؤمن به من الأساس، وأن يحيا ملحداً بلا دين؛ لأن الإنسان العاقل لا يؤمن أو يتبع الدين من أجل دنياه.... بل من أجل آخرته..... فمن سيخدع، لو آمن بدين، يعلم أنه غير صحيح؟!... نفسه؟!... المشكلة أنهم كانوا شديدي الإيمان بآلهتهم، وشديدي الاقتناع بأنهم على حق، وبأن محمد صلى الله عليه وسلم كفر بها، وكانوا يحاربونه لأنه ينشر كفره بآلهتهم..... ومن أجل آلهتهم، فعلوا ما قد يذعر الشيطان نفسه..... عذبوا..... قتلوا.... قطعوا أطراف وألسنة..... انتهكوا أعراض..... ولم يفعلوا كل هذا لأنهم عصابة من الأشرار قبيحي الوجه، المغرقين في الفساد، كما تصوَّرهم أفلام السينما..... بل فعلوه، متصورين أنهم إنما يدافعون عن دينهم.... وصبر محمد ومن معه.... صبروا.... وتحمَّلوا..... وعانوا..... وقاسوا.... ثم هاجروا..... وبقي من رفضوا إعمال العقل، ومن سجنوا عقولهم في ماضيهم، على ما هم عليه.. كفَّار..... كفَّار لأنهم اتبعوا فقط ما وجدوا عليه آباءهم..... كفَّار لأنهم عذبوا، وقتلوا، وتجاوزوا.... حتى ولو كان هذا من أجل دينهم.... وعلى الرغم من كل ما يفعلونه، أمر الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم بأن يدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، وحذره من أنه لو كان فظاً غليظ القلب لانفض الناس من حوله..... وبالطبع لم يكن هذا يتوافق مع كل من آمن به.... هناك من كان يرى أن هذا تساهلاً شديداً.... هناك حتماً من أراد أن ينتقم ممن عذبوه، وقتلوا أحباءه، وأخرجوه من دياره.... ولكن أمر الله سبحانه وتعالى كان واضحاً، بأن يدفعوا بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينه وبينهم عداوة، وكأنه ولي حميم.... واستجاب من آمنوا.... ولكن الكفَّار لم يصمتوا أو يرضوا.... فحتى بعد أن هاجر صلوات الله وسلامه عليه، من مكة إلى المدينة، ظلت دعوته تجذب الآلاف، ممن توقَّفوا عن الحج للأوثان، وعبدوا رب الكون العظيم جلَّ جلاله، الواحد الأحد، الذي لا شريك له.... وبدأ الكفَّار هجومهم على المؤمنين، وغزواتهم لهم..... وهنا حان وقت الجهاد.... وأدرك الكفَّار أنهم قد ارتكبوا أسوأ أمر في تاريخهم كله..... اغتروا بقوتهم، ورفضوا أن يكونوا من أولي الألباب، وأيقظوا العملاق من صمته، وساعدوا هذا الدين العظيم على الانطلاق..... ولم يمض وقت طويل، حتى دخل المؤمنون مكة، وأصبح سادتها في قبضتهم، وصار بأيديهم أن يفعلوا بهم ما يحلو لهم.... ولكن رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، ضرب لهم أروع أمثلة سماحة هذا الدين العظيم.... لم يحمَّر عينيه.... لم يواجههم بنظرات الغضب والقسوة..... لم تهزمه الرغبة في الانتقام.... إنه حتى لم يهددَّهم أو يتوعدَّهم.... لقد عفا عنهم.... دفع بالتي هي أحسن... دعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة.... ففاز الدين.... ودخله الناس أفواجاً..... في هذه القصة أكثر من عبرة.... ولسردها هنا أكثر من معنى، وأكثر من مغزى.... فهل استوعبتم منها شيئاً ؟!.... هل ؟!.. الجزء الأول كالمعتاد..... (1)