"لن أطلب منكم الوقوف حداداً، سيكون الحداد على عصر طويل قادم، حداداً على العصر الذي سيمضي حتى يشبّ فيه رجال، لهم شِيَم الرجال الذي كان يراهم.. وكرم الرجال الذين كان يحلم بهم، وشرف ونُبل وإنسانية وشجاعة ورقّة الرجال الذين استشهد وهو يراهم..". بمجرد أن قرأت هذه المقدمة لسيرة هذا الشاعر، انتباني إحساس بأن يوسف إدريس يُبالغ في مدح رجل رحل؛ لأن كل معلوماتي عنه كانت أنه شاعر، وأيضاً أن اسمه لرجل وليس امرأة، كما كانت معلومات الكثيرين غيري؛ ولكني بقراءتي لسيرة هذا العظيم، أدركت أن ما قاله إدريس كان قليلاً من كثير، تشعر به وأكثر بمجرد الانتهاء من قراءة آخر سطر كتبته زوجته الأديبة عبلة الرويني، من سيرة "الجنوبي" الراحل أمل دنقل. أمل دنقل مزيج من المتناقضات بداية تعترف عبلة الرويني -وهي زوجته- بالفشل في العثور على مدخل حقيقي لشخصية أمل دنقل لسبب بسيط؛ وهو أن أمل عالَم متناقض تماماً؛ فهو "فوضوي، يحكمه المنطق، بسيط في تركيبة شديدة، صريح وخفي في آن واحد، انفعالي متطرف في جرأة ووضوح، وكتوم لا تُدرك ما في داخله أبداً". ولم تُخْفِ عبلة أن زوجها كان استعراضياً يتيه بنفسه في كبرياء لافت؛ في الوقت الذي يحوي بداخله بساطة يخجل معها إذا أطريته وأطريت شعره؛ لدرجة أنه قد يحتدّ على من يمدحه؛ خوفاً من اكتشاف منطقة الخجل لديه. لا يحب أمل منطقة الوسط، يحتقر الانفعالات الوسط، ويتحدى الطبقات الوسطى "يُتلف الألوان جميعها ليظلّ الأبيض والأسود وحدهما في حياته.. يحب أو يكره، يبارك أو يلعن.. هارب دائماً من كل مناطق الحياد التي تقتله". شديد الصلابة كالجرانيت الصخري، من الصعب إدراك طبيعة الفرح أو الحزن من ملامح وجهه ومن نظرات عينيه؛ فهو قادر دائماً على كتمان انفعالاته؛ بل وأحياناً على إظهار عكسها؛ عملاً بمقولته: "دائم الخوف من أن يكتشف الآخرون كم أنت رقيق؛ فيدُوسونك بسنابكهم"! هنا توقّفْت عن القراءة، لأسأل نفسي سؤالاً اعتقدت أنه وجيه: لماذا تقول لنا هذا من البداية، ونحن بالكاد نعرفه.. أما كان من الممكن أن تقول هذا في الختام؛ حتى لا نخشاه ونُصدر عليه حكماً قاسياً، ونحن ما زلنا نقرأ الصفحات الأولى؟ وربما هي قد استشعرت أن هذا السؤال سيقفز إلى رأسي؛ فقدّمت لي الإجابة قائلةً يحتاج الأمر إلى قدر كبير من الحب، وقدر كبير من الفهم والاستيعاب لطبيعة أمل المركّبة العسيرة؛ حتى لا يُجهدنا عناء البحث داخل المناخ الفوضوي الغريب؛ فنتوقّف عند أسطحه المدببة، وصخوره الجرانيتية منزعجين. إذن عليّ وعليك أيضاً، إذا قررت أن تستكمل، عليك أن تشحن طاقة الاستيعاب ومحاولة فهم الآخرين؛ بل وحبهم على اختلاف طبائعهم؛ حتى تُبحر في محيط أمل دنقل.. مستعد؟؟ البحث عن المحارب الفرعوني في الحقيقة هذا الفصل هو بداية رحلة البحث عن أمل دنقل بعدسة عبلة الرويني، عندما فكّرت في بداية عملها في جريدة أخبار اليوم، خلال فترة التدريب الأولى، وقررت أن تتخطى كل الخطوط الحمراء، وتُجري حواراً مع الشاعر أمل دنقل؛ فتقول: قال لي أحد المحررين السياسيين، ستجدين صعوبة في نشر اللقاء؛ فأمل شاعر يساريّ لن تسمح الجريدة بنشر حوار معه!! فأصابتها الصاعقة؛ ولكنها كانت من النوع الذي يُفجّر مساحات التحدّي، وقررت أن تُجري الحوار مهما حدث، قائلةً: سأُجري الحوار! وبدأت تبحث عنه بحماس شديد، وعرفت أنه يجلس دائماً بمقهى ريش، وبعد محاولات عدة من الفشل في العثور عليه، تركت له رسالة تقول: "الأستاذ أمل دنقل.. يبدو أن العثور عليك مستحيل، يُسعدني الاتصال بي في جريدة الأخبار، ويشرفني أكثر حضورُك". وكانت النتيجة أن اتصل بها صباحاً، مُحدِّداً موعداً للقاء في الثامنة مساءً في دار الأدباء في شارع القصر العيني. في الثامنة تماماً كانت في دار الأدباء، وكان المكان شديد الازدحام بجمهور الأمسية الأدبية، وهي لا تعرف ملامح وجهه؛ فتسأل؛ فيقال لها: لم يأتِ بعد. وبعد أن أصبحت الساعة الثامنة والنصف قيل لها: الأستاذ أمل هو ذلك الجالس في نهاية الصفوف. فاقتربت من الصف الأخير؛ حيث جلس شخصان، وقالت: - الأستاذ أمل دنقل؟ فتفحّصها أحدهما بهدوء وقال: - سعادتي!! وعلى غير المتوقع سار لقاؤها معه، فوافق بسهولة على إجراء لقاء أجاب فيه قائلاً: الاسم: محمد أمل فهيم محارب دنقل المهنة: شاعر، قانون الصدفة يحكم علاقته بالشعر ليقف على أرض الهواة لا المحترفين. الموقف: غير محايد؛ فالشاعر المحايد شعره منه إليه؛ لأن حياد الإنسان يقتل في داخله الطموح، والشاعر ليس آلة كاتبة تكتب ما يَدقّ عليها أصابع القدر، دون أن يكون لها إرادة فيما يحدث. وكان هذا جزءاً من أول وآخر حديث صحفي يجريه أمل مع صحيفة الأخبار عام 1975؛ حيث ظلّ اسمه مدرجاً في قوائم الشخصيات، الممنوع ذكرها داخل الجريدة.. فإذا ذكر أحدهم اسم أمل أو اسم كتاب له، قام المشرف العام بحذف هذه العبارات؛ مُردّداً أن أسماء الشيوعيين لا حقّ لها في النشر بالجريدة؛ بل راح مرات عديدة يتّهم أمل بكسر عمود الشعر، والإساءة للغة بما يكتبه من شعر حديث!! بعدها أصبحا صديقين، ثم حبيبن، ثم زوجين، بعد أن اعتقد أن السهم الوحيد الذي يمكن أن يصيبه في مقتل، سوف يأتي من امرأة، بعد أن يستغرق في الحب؛ لكنه في الداخل هارب من التمسك بهذا الحب. الضعيف لا أصدقاء له في هذا الفصل نحن في محطة الصداقة لدى أمل دنقل؛ فالحقيقة أنه لا يوجد لديه أصدقاء في المطلق، واتّسمت صداقته دائماً بالمسافة، التي تمنحه في لحظات الثقة إمكانية الرؤية، وتمنعه من ذلك الالتصاق النفسي بأحد؛ فهو -على حد تعبير زوجته- لا يبحث عن سَنَد خارج ذاته، بعد أن أكسبته مرارة الأيام قدراً كبيراً من انعدام الثقة، وأكسبته أيضاً درساً حول السفن الغارقة، التي لا بد، أن يفرّ منها الآخرون. وكان دوماً يقول: إن الضعيف لا أصدقاء له؛ بينما القوي يتزاحم مِن حوله الأصدقاء. وتقول عبلة: "احتوت صداقاته كثيراً من الأشكال المركّبة، وكثيراً من المنازلات الملتهبة، والمشاحنات الكلامية والمداعبات الشديدة؛ كأنها السكاكين. والحقيقة أن الكتاب يسرد نماذج عديدة لهذه الصداقات المركّبة لأمل دنقل؛ لكن ما يستفزّ الذهن حقاً هو علاقته بيحيى الطاهر عبد الله، والشاعر نجيب سرور، ولهذا الأخير موقف جاء في الكتاب؛ فتقول عبلة: كانت علاقته بالشاعر نجيب سرور واحدة من الصداقات غير الهادئة؛ بل كانت صداقة مدمّرة في شكلها الخارجي، مليئة بالشجار، مردّها -أغلب الظن- إلى نوع من الغيرة الشعرية يحملها نجيب لأمل. فيرفض أمل ميلودرامات نجيب، ويراها نوعاً من التمثيل الفاشل؛ فيمارس استفزازه الحادّ كلما رآه.. (ازيَك يا نوجة). يغضب نجيب لهذا التدليل الجارح، ويظلّ مهموماً طوال الوقت مُهدداً بردّ الإهانة.. يتشاجران بالأيدي في اليوم التالي.. ثم يشربان معاً في مساء نفس اليوم في بار "كازابلانكا"!! إلا أن هؤلاء المقربين منه والذين يعدّون أصدقاء له، راحوا يترجمون شعورهم وانكساراتهم النفسية أمام أمل، عبر صبّ اللعَنات عليه، والاتهامات التي لا تنتهي؛ فراح الكثيرون يرددون أن أمل هو الشاعر الوحيد الذي لم يُعايش تجربة السجن، وراح آخرون يتهمونه بالعمالة للمباحث في سنوات الستينيات؛ حيث كثُر اتهام المثقفين لبعضهم في تلك السنوات بالعمالة والشذوذ؛ على حد تعبير عبلة الرويني. إلا أن أمل كان يسير، ولا يلتفت لأحد كعادته، "كان رده الوحيد هو كلمته وقصيدته؛ فقد كان إلهام حياته هو الكتابة، وليس البحث عن بطولات زائفة؛ مؤمناً أن شرفه الحقيقي هو الشعر، وطريقه الوحيد للنضال يمرّ من خلال القصيدة ولا شيء سواها"؛ لكن في المقابل كان كبرياؤه حاداً للغاية؛ لدرجة جعلت صدّيقه إبراهيم منصور يراه شاعراً مريضاً بالكبرياء. أمل رجلاً في العاشرة في كل الفصول السابقة، لم تأتِ البداية الحقيقية لأمل (مرحلة الطفولة)؛ فكان الحديث عن صفحات متفرقة منزوعة من قصة أمل؛ لكن في هذا الجزء تكتب عبلة عن أمل الطفل، عن ظروف نشأته في صعيد مصر، لأب عالم من علماء الأزهر، ويمثّل السلطة الصارمة التي تصِل إلى حد فرض العزلة على طفولة أمل، ومعاملته كرجل صغير ليس من حقه ممارسة اللعب، والنزول إلى الشارع، والتعامل مع الأطفال؛ حتى نشأ أمل طفلاً انطوائياً خجولاً. و"عرف أمل فقْد أبيه في العاشرة من عمره؛ فصار -بحق- رجل البيت في هذه السن الصغيرة، بعدما صار الأهل غرباء، يسرقون الأرض بين عينيه، والصمت يُطلق ضحكته الساخرة". بالطبع كانت طفولته حزينةً، بها قدر كاف من الألم والمرارة والظلم؛ فعلّمه ذلك "أن يُصبح رجلاً صغيراً منذ طفولته في العاشرة، لم يعرف كيف كان يلعب الأطفال في شوارع القرية، ظلّ أعواماً طويلةً يرفض أكل الحلوى؛ لأنها في نظره لا ترتبط بالرجولة، واشتُهر بين رفاق الصبا بأنه الشخص الذي لا يعرف الابتسامة". ليس هذا فقط؛ بل تَرَك الدراسة بعد إتمامه للثانوية، وبدأ رحلة البحث عن نفسه وحيداً، وهو لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره. فكان من الطبيعي لهذه الطفولة أن تطبع أمل بطابع الخشونة والقسوة والصلابة الشديدة؛ ولذلك تعترف عبلة الرويني أن ارتباطها بأمل كان سبباً في خصام الكثير من الأصدقاء لمجرد معرفتها به، وتحذير الكثيرين من أصدقائه أيضاً من الاستمرار معه؛ فكان الارتباط به من وجهة نظرهم يُشكّل علاقة خطرة. ولكن حدث ما كان يعتبره الكثيرون -وقتها- زواج الغراب من اليمامة؛ على حدّ تعبيرهم!! وعلى عكس البداية لم تكن مع طفولة أمل، كانت النهاية بالحديث عن الرحيل، وعالَم الغرفة "8"، بمعهد السرطان، الذي قضى فيه العامين الأخيرين من حياته مريضاً بالسرطان، إلى أن توفاه الله في الثامنة من صباح السبت 21 مايو 1983. "كان وجهه هادئاً وهم يُغلقون عينيه.. وكان هدوئي مستحيلاً وأنا أفتح عيني.. وحده السرطان كان يصرخ..ووحده الموت كان يبكي قسوته" عبلة الرويني أتعرف أيها الصديق، أنك لا بد أن تُغادر؛ فهذه هي المحطة الأخيرة من هذا المقال؛ برغم أن هناك العديد من التفاصيل والمواقف في حياة أمل دنقل لم أكتب عنها بعد، واسمح لي، فلن أكتب؛ ففي كل مرة أصل فيها إلى النهاية أبكي شخصاً لم أره أبداً، ومع ذلك أعيش مأساته رغماً عني؛ لذا أريد أن تصنع بنفسك عبر قراءتك لهذا الكتاب "الجنوبي" قاربك الخاص للإبحار في عالم أمل دنقل الواسع، وواجه بنفسك المرحلة الأخيرة.. وقل لي أنت: بماذا ستشعر؟ فربما نختلف وربما نتفق أكثر، على أن أمل دنقل إنسان عجيب بكل ما للكلمة من معنى، وأن قراءة سطور لم يكتبها هو من سيرته ستشكّل لديك رؤيةً خاصةً، تجعلك تفهم أكثر تلك الدواوين التي كتبها، وكنا نراها دائماً من أعلى، والآن أنا وأنت أصبحنا جزءاً من القصة حتى لو لم نُرِد ذلك.