في هذه الدنيا القاسية، يعيش الإنسان وسط غابة من التكنولوجيا، تحت وطأة سلسلة من الضغوط النفسية المتعلقة بالعمل والمسئولية، وحتى بناء علاقات إنسانية كالصداقات والزواج.. حياة ذات إيقاع سريع ولاهث، يحلو للمثقفين وصفها بمصطلح فلسفي طويل يقول: "إنها مشكلة الإنسان المعاصر في عصر الحداثة". وكلما فكر الإنسان؛ فإن هذا ليس بالشكل الصحيح للحياة، وإذا فكر في البحث عن حالة من التصالح مع النفس؛ فإن الحياة أمامنا تجعلنا دائماً نغضّ البصر عن حتمية التغيير، وتجعلنا نواصل التكيّف مع الواقع؛ لأن البشر -على مرّ التاريخ- أبدوا تخوّفاً عظيماً من التغيير. ولكن الصحفية والكاتبة الأمريكية إليزابيث جيلبرت كان لها رأي مختلف؛ إذ قررت أن تواجه مخاوفها كلها دفعة واحدة؛ مخاوف التغيير بكل أنواعه.. لم يكن الأمر سهلاً؛ فقد كانت متزوجة وتعمل في واحدة من أهم صحف نيويورك، وتحظى بشهرة واسعة، وتُرجمت بعض أعمالها إلى مسرحيات متوسطة المستوى. ولكن إليزابيث أو ليز -كما يحلو للعالم أن يختصر هذا الاسم- لم تخشَ التغيير لسبب بسيط، أنها لم تعد قادرة على مواصلة الحياة وسط غابة الضغوط النفسية؛ فالحقيقة أنها ليست سعيدة، والحياة دون سعادة هي أشبه بالقبر؛ لذا بدأت ليز رحلة البحث عن السعادة. وحينما عادت مرة أخرى إلى نيويورك، قامت بتوثيق رحلتها في عمل روائي بعنوان "طعام..، صلاة..، حب.." وصدر الكتاب في فبراير 2006، وترجمته الدار العربية للعلوم ببيروت في العام الماضي. تصدّر الكتاب قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في الولاياتالمتحدةالأمريكية لأشهر طويلة، ويعتبر من أهم الكتب التي صدرت في عام 2006 بوجه عام، وأصبحت رحلة ليز للبحث عن السعادة والرضا النفسي محط أنظار الجميع. كيف فعلتها ليز؟ لم يكن الأمر سهلاً، كانت حياتها الزوجية منهارة؛ فطلبت الطلاق، وكان عملها قاسياً ويضغط على أعصابها؛ فطلبت إجازة.. وحينما وجدَتْ أن نيويورك الباردة لم تعُد مريحة هي الأخرى، غادرت ليز نيويورك؛ بل والولاياتالمتحدةالأمريكية كلها إلى إيطاليا. كانت ليز تشعر منذ سنوات برغبتها في تعلّم اللغة الإيطالية؛ معللّةً الأمر بأنها أكثر لغات العالم رومانسية، كما أن الطعام الإيطالي هو الأفضل على مستوى العالم.. هكذا بدأت ليز رحلة السعادة بالسبب الأول الذي عرفه الإنسان عبر التاريخ للحصول على السعادة (الطعام). لم تقُم ليز بزيارة المتاحف والأديِرة والقلاع الأثرية في إيطاليا، مثلما زارت المطاعم في عدد من المدن الإيطالية.. تُقدّم ليز في كتابها صوراً حية من أرض الواقع، بعيداً عن الخيالات التي نراها في السينما الغربية عن إيطاليا.. الشعب الإيطالي كسول بطبعه، لا يبحث عن مبرر للشعور بالسعادة؛ بل يرى أنه يستحقها فحسب دون تفكير. يُعرف عن الإنسان دائماً أنه كلما كان نظامه الغذائي جيداً، استطاع الشعور بالتواصل مع من حوله والسعادة؛ فالطعام في مجمله عبارة عن طاقة تنشط خلايا الإنسان.. هكذا توصّلت ليز إلى أن الخطوة الأولى للشعور بالرضا والسعادة، والقدرة على مواصلة الحياة هو اتباع نظام غذائي شهي ولذيذ. ولكن اليقين لا يزال بعيداً، وهنا يأتي دوْر الدين؛ فالحياة بلا تواصل روحاني مع الله، هو أمر مستحيل من وجهة نظر الكاتبة، بغضّ النظر عن دين أي فرد؛ فلا بد من تواجد مساحة تديّن أو تَواصل بين الفرد وخالقه. تتعرف ليز على وسيطة روحانية هندية، لديها دار عبادة في الهند تُسمى "المعتزلة"؛ حيث يعتزل الناس هناك الحياة العامة، ولا يفعلون شيئاً إلا الصلاة والتأمل وترديد التلاوات الدينية. ولدى العرب عموماً خطأ شائعٌ حول هذا الفكر؛ حينما يتمّ نَسَبه إلى البوذية أو أي ديانة آسيوية أخرى؛ بينما توضّح ليز أن "المعتزل" يمكن أن يضمّ مسيحياً أو يهودياً أو مسلماً أو بوذياً؛ فهذا المكان يوفّر لك بيئة ومكاناً منعزلاً لكي تقوم بصلاتك التابعة لدينك وما ترتاح له، دون أن يتمّ فرض دين معيّن عليك. لكن هل يستقيم الإنسان مع الصحة والدين فحسب؟ بالطبع لا؛ فالوحدة باردة، ومُضرّة بالحياة والصحة أيضاً.. بعد الهند تغادر ليز إلى إندونيسيا لمقابلة عراف شهير هنالك؛ سبق وأن زارته من قبلُ، وأخبرها أنها سوف تأتي إلى إندونيسيا مرة أخرى. كانت المرة الأولى التي ذهبت إليه منهارة عقب طلاقها، وبسبب حالتها السيئة قبل رحلتها إلى إيطاليا والهند، أرادت أن تعرف رأيه بعد التغيير الجذري الذي طرأ على حياتها. وكانت النصيحة الثالثة.. البحث عن الحب ورفيق الحياة، وعلى ضفاف المحيط في "بالي"، تعرّفت ليز على حب حياتها، رجل برازيلي مرهف الحس يبلغ من العمر 52 عاماً، وفّر لها الأمان النفسي الذي تبحث عنه كل امرأة. فكّرت ليز كثيراً في فارق السن، ثم أدركت أن عمرها 35 عاماً، وأنها لم تعد مراهقة في سن التاسعة عشرة، هي بحاجة لرجل ناضج مثل "فيليبه". هكذا اكتمل مثلث السعادة (طعام وصلاة وحب)، وعادت ليز إلى نيويورك لتُكمل حياتها، وتنشر كتابها، ثم أعقبته بكتاب آخر عن حياتها بعد هذه الرحلة بعنوان Committed (التزام) كان تأكيداً على ما أتى في eat..,Pray.., love.