كثير من النظريات قد خرجت لتقول إن ديانة الفراعنة كانت في الأصل دينا سماويا سليما، ثم تم تحريفه لديانة متعددة الآلهة. والمتأمل في كتاب الجبتانا (أسفار التكوين الفرعونية) التي تقصّ قصة خلق العالم ونشأة مصر، يستفزّ عقله ذلك التشابه الشديد بين نظرة أسلافنا الفراعنة للخلق والتكوين والحياة والموت والثواب والعقاب، ونظرتنا الحالية لنفس الأشياء من منطلق أدياننا السماوية، خاصة مع قراءة بعض كتب التراث الإسلامي التي تناولت نفس الموضوعات، كالبداية والنهاية لابن كثير، ومروج الذهب للمسعودي، وغيرها. الأمر ليس مدهشا للحد الذي قد تصوّره البعض، فمن المنطقي جدا أن تحمل الأديان غير السماوية نقاط تشابه عِدة مع تلك السماوية؛ لأن أصل كل هذا هو الدين الحقّ الذي عَلَّمه الله تعالى آدم عليه السلام، فإن حدث بعد ذلك انحراف عن هذا الدين، ونشأت عقائد أخرى فإن تلك العقائد لا تستطيع الانفصال تماما عن أصلها الصحيح الأول. وما يلي ليس محاولة لتأكيد تلك النظريات سالفة الذكر -أو حتى التلميح بصحتها- وإنما هو مجرد عرض لبعض مظاهر التشابه التي جاءت في كتابات الأقدمين والمؤرخين، وأثارت دهشة علماء التاريخ والأديان. قصة الخَلق "في البدء لم يكن إلا ماء وضباب.. ولم تكن حياة.. ولم تكن نباتات ولا دبابات (أي من يدبّ على الأرض).. طبقتان متلاصقتان من المياه.. بينهما فاصل فضّي من النور". (الجبتانا - سِفر انبثاق الآلهة والعالم - الإصحاح الأول) "كان في عماء، ما فوقه هواء، وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء". (إجابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن سائل سأله عن أين كان الله تعالى قبل خلق السماوات والأرض - المسند للإمام أحمد - البداية والنهاية لابن كثير). من ينظر في الاقتباسين السابقين يلاحظ مدى التشابه بين قصتي الخلق -الفرعونية والإسلامية والمسيحية- فكلها تبدأ بالماء الذي قال الله تعالى فيه: {وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}. وكلها تبدأ بذلك المشهد: فراغ مطلق به ضباب أو دخان وماء، يعقبه بدء خلق الكون. ثم يأتي التشابه الأعمق بعد ذلك في مسألة الخلق باللفظ؛ فالله تعالى يقول: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، والجبتانا كذلك تؤكد أن الآلهة كانت تخلق ب"الكلمة"، أما الكتاب المقدّس فيقول إنه "في البدء كان الكلمة". هناك ذلك الاتفاق الكامل أن الكلمة كانت مفتاح الخلق ومحرّكه. ولأن للكلمة قدسيتها، فإن المصريين قد اهتمّوا بها، فلم يقتصر تقرّبهم للآلهة بالقرابين والهدايا، بل شمل صلوات لفظية تُقرأ عند الشروق وعند الغروب، وعند الأحداث المهمة كالميلاد والموت والزواج، تلك الصلوات كان بعضها في شكل نصوص ثابتة لا تتغير، ورد اسم الواحدة منها في كتاب الجبتانا باسم "سورَتا"، ومن الملاحظ التشابه مع اللفظ العربي "سورة"، بغضّ النظر عما إذا كانت ثمة علاقة فعلية بين اللفظين، فقد يكون التشابه محض صدفة، ولكن المشكلة أن التشابه هنا ليس في مجرد اسم النصوص، بل كذلك في طبيعتها كنصوص مقدّسة. واستفزاز الذهن يتضاعف حين نقرأ في الجبتانا سالفة الذكر أن الذين كانوا يُعَرِّفون المصريين بكيفية الصلاة والتعبد، وتعاليم الخير والنواهي عن الشر، كانوا أناسا يوصفون بأنهم على اتصال مباشر بالآلهة، وأفعالهم ليست بشرية المصدر بل هي وحي سماوي، وهؤلاء الناس كان الواحد منهم يُسمّى باللغة القديمة "نَبو"، والتي يؤكّد بعض علماء اللغة أنها أصل اللفظ العربي "نبي" الذي استخدمه القرآن بعد ذلك؛ للدلالة على من يختارهم الله لتذكير الناس بالدين الحق. بين إدريس وأوزوريس التشابه الذي لا يقلّ إثارة هو ذلك الذي بين قصتي إدريس عليه السلام، وأوزوريس، فبغضّ النظر عن تشابه الاسم، نرى في كتب التراث الإسلامي لكبار المؤرخين الثقات أن إدريس عليه السلام عاش بأرض مصر، وكان نبيا من عند الله تعالى، عَلَّم الناس الزراعة والكتابة وعلوم الفلك والهندسة، وهو أول من لبس المخيط، وبنى بمصر مدنا كبيرة عظيمة، ثم انتهت حياته بأن رفعه الله تعالى إلي السماء {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 56]. أما "الجبتانا" فنقرأ فيها أن أوزوريس كان أحد أحفاد "جبتو" -مؤسس مصر القديمة وفقا لهذا الكتاب- وكان أوزوريس قائدا محبوبا ومبتكرا صاحب ذهن خلاق، فعرف قواعد جديدة للزراعة، واستحدث حروفا جديدة للكتابة المصرية، وعرف بالتجربة قواعد الهندسة والفلك والبناء، وبنى المدن في أنحاء مصر ليعمرها بعد أن كانت موحشة، وهو أول من لبس المخيط، ثم دار الصراع الشهير بينه وبين أخيه غير الشقيق "سِت"، والذي انتهى بتدخّل مجلس الآلهة وحكمهم بإنصاف أوزوريس، ثم رفعه للسماء ليكون إلها بينهم. ولا يخفى عنا هنا أن سِت لم يكن عند المصريين القدماء مجرد رجل شرير، بل كان إلها للشر ذاته، وارتبط بكل ما هو سيئ ومدمّر كالصحراء والضواري. وجدير بالذكر أن لفظ "سِت" انتقل من المصرية القديمة إلى العبرية فتحول إلى "ساتان" -أي "شيطان"- وكلمة "ساتان/ Satan" بأغلب اللغات تعني الشيطان، بل إن اللفظ "ساتان" هو أصل كلمة "شيطان" العربية، وفي أغلب اللغات ينسب الفعل الشيطان للكلمة فيقال "Satanic/ شيطاني". ما بعد الموت كثير من الأديان الشرقية القديمة عرفت صورا للحياة بعد الموت، ولكن لم يبلغ أحدها ذلك الشبه الذي بلغته الديانة المصرية القديمة مع الأديان السماوية في هذا الموضوع. فالمصري القديم كان يحرص على أن يضع في قبر الميت كتابا به ما يشبه التعليمات؛ لكيفية المرور بالطريق بين الحياة الدنيوية المنتهية وتلك الأخروية الأبدية، هذا الكتاب هو "كتاب الموتى"، والذي يشبه كثيرا من حيث المضمون والفكرة عملية "التلقين" التي يقوم بها المسلمون مع موتاهم، حين يلقّنون الميت كيف يلقى الملائكة القائمين بمساءلته في قبره، وكيف يجيبهم. ويؤمن الفراعنة كذلك بأن الميت يمرّ خلال تلك الرحلة باختبار صعب هو السير على حبل رفيع بين جبلين، تحت هذا الحبل هاوية بها من الأهوال ما بها، فإن كانت روح الميت طيبة فإنه يمر مرورا سهلا، أما إن كانت روحا خبيثة فإنه يهوي لتتلقفه الأهوال، ويُحرَم نعيم الآخرة. هذا الاختبار والحبل الرفيع يطلقون عليه اسم "الصِراطا"، وهو إضافة لقائمة التشابهات مع الديانات السماوية، حيث يعرف المسلمون نفس المرحلة باسم "الصراط"، ويدعون في فاتحة الكتاب في الصلوات قائلين: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]. وبَعد مرحلة الصراط تنتهي رحلة الميت بأن يقف في المحكمة الإلهية، فيتبرأ من الذنوب والخطايا؛ كالظلم والسرقة والعدوان وتلويث مجرى النيل وخيانة الوطن، ويتمّ وزن قلبه في ميزان إلهي دقيق، وفي المقابل توضع ريشة تمثّل الصدق والعدل، ولهذا فإن من دعاء المصريين القدماء لما بعد الموت: "يا قلبي الخاص بي لا تقف شاهدا ضدي"، وهو تشابه يضاف لما سبق، فالله تعالى يحدّثنا في القرآن الكريم قائلا: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65]. عندما يتمّ وزن قلب الميت مقابل الريشة المذكورة، يتحدد مصيره على أساس رُجحان كفّته أو كفّة الريشة، وهذا الذكر للميزان لا نراه في ديانة غير سماوية سوى ديانة المصريين القدماء، وهو تقريبا نفس ما جاء في الإسلام من وجود الميزان يوم القيامة أداة لوزن أعمال الإنسان، وتحديد مصيره، وفق وضع موازين عمله الخَيِّر وعمله السيئ. ثم تنتهي المحاكمة بتحديد مصير الميت، إما إلى الحياة الأخروية الناعمة، أو إلى العذاب الأبدي الأليم، وهو وضع يقترب من الديانات السماوية أكثر مما تفعل كثير من الأديان الشرقية القديمة، كتلك القائلة بأن المخطئ يُعاقَب بأن تتناسخ روحه لروح حيوان مهان، أو تلك التي لا تفرّق بين مصير الصالح والطالح، وتضع كليهما في حياة أبدية شقية. ختام الجزء الثالث الأسطورة هي دين القدماء وعلمهم، أما لنا فهي صورة لكيفية تفكيرهم وتفسيرهم للعالم، وكذلك لكيفية نظرتهم لما وراء هذا العالم، ولكن تفسير الأساطير لا يقف عند هذا فحسب، بل يمتدّ ليصل لمحاولة ربط الأسطورة بالحقيقة؛ للوقوف على الناتج الفكري لخيال من سبقونا للعالم بآلاف السنين، لنفهم كيف عاشوا وتفاعلوا مع الماديات، وكذلك مع الغيبيات.. لا حرج في ذلك؛ فمحاولة فهم كيف فكّر من قبلنا لا تتعارض مع إيماننا بما بين يدينا من الكتاب. (يُتبع) مصادر المعلومات: القرآن الكريم. الكتاب المقدس. البداية والنهاية: ابن كثير. النهاية في الفتن والملاحم: ابن كثير. تفسير ابن كثير. مروج الذهب ومعادن الجوهر: المسعودي. أساطير اليهود: لويس جنزبرج. الجبتانا.. أسفار التكوين المصرية: مانيتون السمنودي. فجر الضمير: جيمس هنري بريستيد. الديانة المصرية القديمة: د. علي نور الدين. موسوعة مصر القديمة: سليم حسن. الكامل في التاريخ: ابن الأثير. المدخل في تاريخ الأديان: د. سعيد مراد.
واقرأ أيضاً الرجل الذي وحّد المصريين بعد مذبحة عظيمة فسُمّيت البلاد على اسمه عندما عاشت مصر في حماية السحر والجنّ والتعاويذ!