كثيرون تحدثوا -وما زالوا يتحدثون- عن نظرة كل من المسلمين وأوروبا ل"الآخر"، ولكن ما يعطي القيمة الكبيرة لكتاب الدكتور قاسم عبده قاسم "المسلمون وأوروبا -التطور التاريخي لصورة الآخر" هو المكانة العلمية العالية والثِقَل الأكاديمي اللذان يمتلكهما د. قاسم كأحد كبار المؤرخين المصريين والعرب، وكأستاذ مرموق لتاريخ العصور الوسطى، ورائد فذّ للدراسات والبحوث الأكاديمية في مجالات العلوم الإنسانية، وباحث نشط في كل ما يمسّ علاقة العرب والمسلمين بالآخر تاريخا وحاضرا، ومدافع شرس وقوي وعادل عن حضارتنا العربية والإسلامية، وعن المحتوى الإنساني للعروبة والإسلام. للأمانة أعترف للقارئ بأني منبهر بالدكتور قاسم عبده قاسم، وبأعماله العبقرية تأليفا وترجمة، كما أعترف أن كتاباته كانت الأكثر تأثيرا في حبي لمجال التاريخ، وإني لأرجو بشدة أن ينتقل انبهاري وإعجابي للقارئ العزيز بعد قراءته هذا المقال، الذي أتشرف حقا بكتابته عن كتاب يستحق مكانة كبيرة في المكتبة العربية.
في البداية يحدثنا د. قاسم عن إشكالية الصراع بين المسلمين والغرب، تلك الفكرة التي تروّج لها أصوات من الطرفين، يعلق على تلك المسألة قائلا: "في ظني أن العالم بدأ ينقسم إلى قسمين رئيسيين، بغضّ النظر عن الحدود الجغرافية والتقسيمات والسياسية واللغوية والعرقية: دعاة الحرب وقارعو طبول الصدام والصراع من أجل أطماعهم الرأسمالية الجشعة، والبشر العاديون الذين يريدون العيش في سلام تظلله الأخوة الإنسانية". إذن فالمؤلف يضع معيارا للتفرقة بين معسكري "الخير والشر" في هذا الصراع، فهو لا يجعل الدين أو العرق مقياسا، بل إن المقياس الحقيقي هنا هو "من يريد السلام حقا ومن يريد الحرب؟". ثم بعد تلك المقدمة التي يوضح فيها من البداية موقفه، يأخذنا دكتور قاسم عبده قاسم إلى تلك المناقشة في ثلاثة أقسام لكتابه. المسيحيون والفتوح الإسلامية في هذا الفصل يستعرض المؤلف معنا موقف المسيحيين المعاصرين للفتوح الإسلامية الأولى من تلك الفتوحات. مؤرخون ورجال دين ومفكرون من بيزنطة ومصر والشام وأرمينيا، نقرأ آراءهم وتعليقاتهم على دخول المسلمين بلادهم، بعد أن نكون قد أخذنا فكرة سريعة -وافية مع ذلك- عن المشهد المسيحي قبل فتح هذه المناطق. يؤكد د. قاسم في البدء حقيقة مثيرة للعجب هي أن معظم فتوح المسلمين، الذين امتدت إمبراطوريتهم من الصين إلى سواحل الأطلنطي، كانت صُلحا لا حربا، الأمر الذي يحمل دلالات مثيرة للتأمل. ثم ينتقل للحديث عن كتابات المعاصرين للفتوح، وردود أفعالهم عليها. فقد اتفق كل هؤلاء في أن "الله أرسل أبناء هاجر" عقابا للطغاة، ولكنهم اختلفوا بين مُظهر لعميق كراهيته للمسلمين، ومُظهر لمودته وامتداحه لهم، وفقا للموقف السياسي الذي يتبعه كل منهم، فمن هم تابعون للكنيسة البيزنطية مثلا كانوا في حزب الرافضين الكارهين، بينما كان المنتمون للكنيسة القبطية من الممتدحين المرحّبين. ويقول دكتور قاسم إن المواقف الرافضة للمسلمين لم تكن معبّرة عن موقف عامة الناس، بل كانت بمثابة الموقف الرسمي فحسب. ويختم المؤلف هذا الفصل بتأكيده أن سبب انتشار الإسلام -ثقافة ودينا- في البلدان المفتوحة كان كونه دينا جاء ليكمّل الأديان التوحيدية السابقة لا ليهدمها، وأن "أسلمة" و"تعريب" هذه المناطق إنما كانا برغبة أهلها؛ نتيجة السياسة الناجحة للمسلمين الذين كانوا يجنحون للمسالمة والحفاظ على حرية العقيدة، وأمن الكنائس وأهل الذمة. أوروبا والعالم الإسلامي "لم يكن الدين السبب في الصراع بين البشر في أي زمان ومكان، وإنما كان دائما المبرر والغطاء لأطماع الاقتصاد، وطموحات السياسة، ونيران الحرب". يستعرض الفصل بعض المسائل المؤثرة في العلاقات الإسلامية الأوروبية ونظرة كل طرف للآخر، مثل أثر حركة الفتوحات الإسلامية، والمشكلة المعرفية بين كل من المسلمين والأوروبيين، والتي أثّرت في تفاعل كل منهما مع الآخر، وصورة المسلمين في الدعايات الصليبية للحرب ضدهم؛ باعتبارهم برابرة همجا يذبحون المسيحيين في الشرق ويدنّسون مقدساتهم، وفي المقابل يستعرض الموقف في العالم المسلم الذي رفض مفكروه وكُتابه وصف الغزاة الأوروبيين للشرق خلال تلك الحملات بالمسيحيين أو حتى بالصليبيين؛ نظرا لتفريق المسلمين بين المسيحي كذمّي والغازي الأوروبي كعدوّ "كافر" و"ملعون"، فعِلّة اللعن والتكفير هنا لم تكن الدين، بل كانت الفعل العدواني، مما يعكس رقيّ النظرة الإسلامية للآخر؛ قياسا بنظرة هذا الآخر العدوانية للمسلمين. وأخيرا يعرض المؤلف لعالم ما بعد الحروب الصليبية، بعد أن تلقّت النظرة الصليبية للمسلمين، صدمة عاتية بعد الاحتكاك بهم، فقد كانت صورة المسلمين لديهم خيالية قاتمة؛ بسبب الدعاية البابوية السلبية، لهذا فقد كانت تلك الصدمة بداية ظهور الرغبة الحقيقية في تعرّف حقيقة المسلمين والإسلام، رغم تزامن ذلك مع موجة عداء تصاعدية جديدة للمسلمين؛ بسبب سقوط معاقل الصليبيين في الشرق واحدا تلو الآخر. مفهوم التسامُح بين ثقافتين: أوروبا والعالم الإسلامي في هذا القسم الثالث -والأخير- من الكتاب، يتحدث دكتور قاسم عبده قاسم عن فكرة "التسامح" بين الإسلام وأوروبا، ومن بدايته ينتقد تعبير "التسامُح"؛ حيث إنه يعني وجود خطيئة ما ينبغي التسامح فيها، والاختلاف بين الأوروبيين والمسلمين ليس خطيئة على أي منهما لنقول بتسامحه مع الآخر. وهو يؤكد أن هذا المصطلح غير الدقيق إنما هو وارد على الثقافة العربية من الثقافة الغربية، حيث لم تشهد الكتابات العربية القديمة هذا التعبير في سياق الحديث عن الآخر. ويؤكد كذلك أن العلاقة بين "الأنا" و"الآخر" في حضارة العرب المسلمين إنما قامت على أساس احترام حق الآخر في الوجود والاختلاف، وأخوة البشر جميعا. ويُلقي المؤلف الاتهام على الغرب -الذي يدّعي التسامح- في أنه ليس متسامحا إطلاقا، بل إنه ينظر للآخرين بفوقية واستعلاء. وفي حديثه عن "الأنا" و"الآخر" يعود ليؤكد أن حروب الغرب على البلدان الإسلامية مثل العراق وأفغانستان، ليست حربا إسلامية مسيحية، بل هي حرب بين دعاة الحرب من الطرفين ودعاة السلام من نفس الطرفين، منتقدا بذلك نظرية صراع الحضارات التي أصبحت أصوات كثيرة -في الشرق والغرب- تروّج لها وتنادي بها. ويعرض د. قاسم للنموذج المصري في تقبّل الآخر، حيث يقدّم الأدلة التاريخية القوية على أن مصر كانت دوما أرضا خصبة للتفاهم والتعايش بين الأطراف المختلفة، ويتابع تطور "التسامح" بين المختلفين في مصر وصولا لسبعينيات القرن العشرين، حين عرفت مصر -مع الأسف- التعصب لأسباب داخلية وخارجية سياسية في المقام الأول، فقد انتقلت عدوى الرفض السياسي للآخر لباقي أوجه الاختلاف الثقافي والديني. ختام يختم دكتور قاسم عبده قاسم كتابه المتميز بتساؤلات أخيرة، لا أرى أفضل منها ختاما لهذا العرض لكتابه "المسلمون وأوروبا".. "هل يمكن أن نشعر بالذات والهوية ونحن نفتقر إلى الحوار والتسامح في داخل مجتمعاتنا"؟ "هل يمكن أن نشعر بالذات والهوية وقد رضينا لأنفسنا دور التابع المهزوم سياسيا وفكريا"؟ وأخيرا.. "هل يمكن أن نشعر بالذات والهوية ونحن نستهلك ما ينتجه الآخر من إنتاج مادي وإنتاج فكري على السواء؟ أم ترانا بحاجة إلى أن ننتج ما يجعلنا شركاء للآخر في صناعة حاضر البشرية ومستقبلها؛ حتى يتسنى لنا أن نطالب الآخر بالحوار والتسامح"؟ إن طبيعة الإجابة على الأسئلة السابقة هي التي سوف تحدد موقفنا من الآخر وموقف الآخر منا..