يكتب ما لا يكتبه غيره، ويرى بعين لا يملكها سواه، ويرسم بقلمه في صعوبة بالغة السهل الممتنع؛ إنه القاصّ الأديب الدكتور محمد المخزنجي، الذي يتّسم ببراعة ورونق خاص وفريد.. كيف لا، وهو الذي رأى في كارثة انفجار مفاعل تشرنوبل زاوية لم يتطرق لها سواه؟ حيث كتب عن معاصرته لها في كتابه "لحظات غرق جزيرة الحوت" في صورة فصول العام المتعاقبة! عالم يعشقه المخزنجي اليوم نتحدث عن عالمه الذي يعشقه، العالم الذي لا يكلّ ولا يملّ من الكتابة عنه والدفاع المستميت عن أبطاله، إنه عالم الحيوان.. نتكلم عن كتابه الذي صدر مؤخراً عن دار الشروق تحت عنوان "فندق الثعالب"، الذي يحوي 33 حكاية، أبطالها من الطبيعة والكائنات الحية من طيور وحيوانات، وبرسوم المبدع وليد طاهر، التي أضفت ألوانه وريشته حياة حقيقية من روح ودم تتحرك بين الأوراق الصامتة. حينما رغبتُ في كتابة مقال حول الكتاب، وجدت أن أنسب مقال يُكتب هو أن أضع بين أيديكم الفندق كاملاً، الثلاثة وثلاثين حكاية دون إضافة أو نقصان؛ لأنها تمثل عالماً حقيقياً يستحق الولوج، يستحق أن نعرف عنه أكثر، نتعاطف مع قضاياه، نتلّمس جماله وسحره. كتاب للكبار أم للصغار؟ الكتاب قد تفشل في تصنيفه: هل هو للكبار، أم للصغار؟ ففي إحدى حكاياته "تقول الزرافة الصغيرة: لا تظلموا أمي"؛ حيث يتحدث كاتبنا في صورة بالغة البساطة عن علاقة الأم بوليدها، تلك العلاقة الحانية التي تحكيها الأمهات، ولا تتغير بين بني البشر وبين الجنس الحيواني؛ لكن بعض المعلومات العلمية الدقيقة، والألفاظ الجزلة ستجعلك ترجّح الكفة لأصحاب الأعمار المتقدمة، وفي النهاية سوف تصل بالتصنيف العبقري الذي وضعه المخزنجي بنفسه "إلى الكبار الصغار". ثم تحدّث عن تلك العصافير التي تلعب دور الرادع السلمي، وميزان الطبيعة؛ فلا نستطيع أن نعيش دون هذه المخلوقات، التي تسبب إزعاجاً للبعض فيصطادونها دون أدنى شفقة.. لقد وَضَعَنا الله جنباً إلى جنب لتعمير هذا الكون والرقيّ به، وإن حاول أحدنا التخلّص من الآخر، اختلّ الميزان الكوني البديع، وضاع سرّ الله في أرضه. ستجد في بعض الحكايات أن الحيوانات تأخذ موقع الراوي، لتبدأ في الحديث عن نفسها وهمومها ومشاعرها، بصورة غاية في الإمتاع والإتقان؛ كتلك النعامة البرّية التي ترفض اتهامها بالجبن، وتشرح لنا كيف أنها تُقلّب بيضها تقليباً مستمراً بمنقارها وبجانب رأسها، وعندما رأى البعض ذلك ظنّوه هرباً، واعتادوه مضرباً للمثل في هذه العادة الذميمة.. كما تخبرنا عن نظامها الغذائي الصعب، وسرعتها التي تبلغ 70 كيلومتراً في الساعة، لتكون الأسرع بين أقرانها.. وعمرها الذي يتجاوز أحياناً مائة عام. اتُّخذت النعامة بالخطأ مضرباً للمثل في الجبن والهرب من المواجهة رسم بالكلمات في عالم الحيوانات تشعر بريشة الكاتب ترسم لا تكتب، في قصة "البطريق الأب يُرضع ابنه!" تجد نظاماً دقيقاً يدور كعقارب الساعة في انتظام مدهش، الأم تحمل البيضة، تضعها ولا ترقد عليها، يتلقّفها الذكر، وتذهب الأم في رحلة غذائية تستمر ثلاثة أشهر، ثم تعود؛ فتجد الأب يُرضع وليده من حوصلة عند بلعومه، ثم يضعف الأب؛ فيحتاج هو لهذه الرحلة الغذائية، وهكذا، لا شيء يتبّدل، لا نظام يتحّول. هذا هو العالم الذي يعرف ما ينبغي عليه فعله؛ فيؤديه.. فيظهر في تلك الصورة المثالية التي يحاول الكاتب تلمّسها، ويريد الخلاص إلى أن الحيوانات والطيور لديها إحساس راقٍ يفوق ما يملكه أقرانها من بني آدم.. بدا ذلك جلياً في الكثير من قصص هذه المجموعة؛ مثل قصة "الحمار المخطط الصغير لا ينسى"، و"أنا دب الهيمالايا الأسود"، وظهر كذلك بوضوح في مجموعته السابقة "حيوانات أيامنا"، التي صدرت في عام 2006 عن دار الشروق. جانب الحكمة كذلك لم يغِب عن الكتاب، يمكنك الشعور بذلك من خلال حوار بين سلحفاة وغزال في قصة "الغزال والشلال"؛ حيث يقول الغزال: "ما دَخَل العنف في شيء إلا شانه، وما دخل الرفق في شيء إلا زانه"، وعندما استوضحت السلحفاة عن مغزى ما يقول، أردف الغزال في عمق: "إنه يعيّرني بأنني هش وآكل العشب؛ لكنه لا يدري أنه بعنفه يأكل نفسه". الإنسان كائن متوحش في كثير من الأحيان؛ إذ يقتلع قرون "وحيد القرن" آملاً في قوة وفحولة قد يبلغها، وبعوادمه وإشعاعاته الذرية تسبَّبَ في ثقب الأوزون ونفاذ الأشعة فوق البنفسجية التي أحالت الجليد لمستنقع يُسقط الدِّبَبَة القطبية من شدة الإنهاك والجوع.. ولعل الصراع الإنساني-الحيواني ظهر بالصورة الكاملة على لسان "نيمو"؛ تلك السمكة الصغيرة التي تقول: "نجوت؟ نعم؛ لكنني أهيم في المحيط، أبحث عن سرب أسماك من نوعي، أعيش آمناً وسط جموعه، وعندما أجد هذا السرب سأخبر أفراده بأن هناك ظاهرة أشدّ ضرراً من النينو وأخته نينا، هي الإنسان عندما يتوحش، ويندفع في الصيد الجائر الذي يجرّف البحر من الأسماك؛ يطمع في المكسب الكبير اليوم، ولا يفكر في الخسارة المؤكدة غداً". الحيوانات والطيور لديها إحساس راقٍ يفوق ما يملكه أقرانها من البشر في كل قصة بحر من المعلومات هل تصدّق أنه عن طريق هذا العالم يمكنك التنبؤ بحالة الطقس، ومعرفة الساعة بدقة متناهية؛ فالقواقع تشرح لك الأولى، والورد المُتفتّح يبيّن لك الثانية، وأنت بين هذه وتلك تتجول بين عوالم مختلفة، وتدرك ماهية البيضة التي تحوي سرّ الحياة، ترى أصغر متاحف الخزف في العالم، تنهل من كل قصة بحور من المعلومات العلمية، وتسبح وسط تيار الحكاية وتغوص وسط خيوطها المنسوجة بكل جوارحك، تشعر بأنفاسك المستريحة تحت ظلّ أشجار "البوانسيانا"، ترى الطيور محلّقة من حولك بألوانها الساحرة، تستشعر بأصواتها تصدح في أذنيك، تحسّ بالفهود صاحبة اللون الكهرماني النقي تثِب بين الحروف في رشاقة وليونة. كما يستنكر د. محمد المخزنجي في بعض الحكاوي بعض الأمور السياسية؛ ينتقدها في إسقاط بدا واضحاً، مثل "فندق الثعالب": حيث يعترض على سياسة الملكة "فيكتوريا"، وحروبها في الصين وجنوب إفريقيا، وفي "مطوار.. لا ينسى ضرب النار" يَذكر ألم الفيل "مطوار" من الحروب الأهلية، وثورته المتأججة عليها، ويتساءل "هل يخجل البشر من إشعال حروب أهلية أخرى؟". قضية أخرى في منتهى الخطورة شغلت كاتبنا وهي: انقراض بعض السلالات؛ فلم يغِبْ عن خَلَده هذا الأمر بين ال33 حكاية المذكورة، صوّرها في قِطَع حكائية بليغة، مثل الببغاء في "عرس الببغاء الأخير"، والفهد الصياد في "لغز تناقُص أعداد الفهد الصياد". وختام الكتاب كان بتذييله بجزء خاص يحوي بعض المعلومات عن أبطال وبطلات هذه الحكايات، معلومات علمية تجمع بين الدقة والبساطة والغرابة، تجعلك تفغَر فاك في دهشة من فرط ما تقرأ من معلومات أخّاذة. لقد نجح هذا الكتاب في أن يصل بالقارئ إلى مبتغاه الذي أراده صاحبه "إنهم سيحبّون الحياة الفطرية ويحترمونها ويتعاطفون مع جمالها وسلامها وسلامتها؛ لأن فيها جمال وسلام وسلامة العالم كله".