منذ صغري كنت أحلم بالسفر حول العالم، حتى إنني كنت أحلم بأن أعمل مضيفة طيران، ولكن في كل مرة كنت أفكر في السفر للغرب، كان هذا التساؤل كثيرا ما يخطر ببالي "هو حقيقي لو وقعت في الشارع ماحدش هيعبّرني!". وذلك بسبب تلك الفكرة الشائعة عما يحدث في الدول الغربية من انعزالية وتفسّخ للمجتمع، وكانت دائما ما تأتي هذه الفكرة مرتبطة بفكرة أننا الأفضل، وأننا أولاد البلد الجدعان، وأن مجتمعنا العربي المسلم مترابط ومتجانس أكثر من أي مجتمع آخر. فبالتأكيد ليس لدى الغربيين حديث نبوي يقول: "المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً"؛ فهم ليس لديهم أحاديث، وربما ليس لديهم أنبياء، فهم كما يقول الشيخ "كفرة"، يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر ويحلّون الزنا، ولذلك فإن ربنا غضبان عليهم، "هو لو ماكانش ربنا غضبان عليهم كان رماهم في آخر الدنيا ليه؟!" كما تقول النكتة الشهيرة. ومع نضجي ومحاولاتي التخلص من هذه الانطباعات سابقة التجهيز، والأسطوانات "المشروخة"، لم أستطع أن أتخلص من الخوف المتوارث من فكرة قسوة الغرب والغربة، ولذلك كنت أسافر في كل مرة وأنا أضع يدي على قلبي، ما الذي يمكن أن يحدث لي لو وقع أي مكروه؟ هل سأجد من ينقذني أو ينجدني في هذه البلاد البعيدة، ذات المباني العملاقة والأشخاص المشغولين دوما في الآي بود واللاب توب واللهاث اليومي من أجل "الأحلام والطموحات الكبيرة"؟ اللهاث من أجل الأحلام بالطبع؛ فهؤلاء البشر قد تخطّوا مرحلة لقمة العيش والزواج منذ زمن، وأصبحت هذه الأشياء مضمونة بالنسبة لهم، ولذلك تفرّغوا للأشياء الأخرى والتي نعتبرها نحن قمة الرفاهية. ما علينا.. المهم أنني الأسبوع الماضي تحديداً "شفت بعيني ماحدش قال لي"، فأثناء ركوبي مترو الأنفاق في مونتريال، وأثناء دخول المترو إلى محطة "جي كونكورديا"، تفاجأت أنا وركاب المترو برجل ذي ملامح جادة جدا يشدّ فرامل الطوارئ؛ ليوقف المترو، الحقيقة أنني قد أصابني الذعر لثوانٍ، وفي عقلي قلت "ده بقى اللي بيحصل في الأفلام الأمريكاني، والراجل ده هيطلع مدفع بازوكا من جيبه دلوقتي، ويخطف المترو بالركاب" من الواضح أني متأثرة كثيرا بالسينما الأمريكية. وأيضاً لأنني أعرف أن شدّ فرامل المترو "حاجة كبيرة"، ومكتوب بجانبها أنك لو استخدمتها دون سبب تعرّض نفسك للغرامة والحبس، وأتذكر حادثة قديمة عن رجل نام في مترو المرج، حتى دخل به القطار المخزن، ونشرت الجريدة أنه تم مطالبة الرجل بغرامة لشدّه فرامل الطوارئ؛ "على أساس أنها غلطته، ومش حالة طارئة"، ولم أفهم وقتها هو كان المفروض ينام في المترو للصبح؛ عشان يصلّح غلطته من غير ما يشد الفرامل ويدفع الغرامة؟؟!!! المهم نرجع لموضوعنا تاني، المترو وقف لأنه كان داخل على المحطة، وتحوّل نظر الركاب جميعا في الاتجاه الذي ينظر إليه الرجل الجادّ؛ بحثاً عن "بقية العصابة"، فلم نرَ سوى شاب منهار على الأرض. وبالطبع شباب مونتريال "الجدعان" حملوا الشاب وأخرجوه في الهواء، ومدّدوا جسمه على الأرض، وفي خمس ثوانٍ بدأ يظهر أشخاص بأيديهم لاسلكي حول العربة، يتساءلون عما حدث، ولماذا تم إيقاف القطار، وبالمرة تم استدعاء طبيب، وخلال 5 أو 10 ثوانٍ جاء بالفعل طبيب، لا أعرف من أين ظهر، ولكن كان واضحا من طريقة فحصه للشاب أنه طبيب، وفي نصف دقيقة عاد المترو لسيره الطبيعي، تاركاً الشاب المريض والطبيب، وأحد الركاب قرّر البقاء معه على رصيف المحطة. وترك رأسي يعصف بما رأيت، يتم إيقاف القطار من أجل شخص يصاب بإغماءة، إذن ما زال هناك خير حتى في هؤلاء البشر، الذين يبدون لي من الخارج كتماثيل الشمع، بل إنهم قد يكونون أكثر تفهماً وتحضراً، فلم يزدحموا حوله ويهجموا عليه ليرضوا فضولهم، ولذلك كنت أستطيع من مكاني أن أرى المشهد كاملاً، واستطاع الطبيب أن يصل له بسرعة وسهولة، ولم يُفتِ كل شخص منهم بفتوى، فتجد أحدهم يرفع ساقه وينزلها الآخر، أو يعطيه واحد قطعة حلوى، فيوصي الآخر بحاجة مملّحة لرفع الضغط، كان الشاب قد بال على نفسه، ومن الواضح أنه يعاني غيبوبة سكر أو حالة صرع والله أعلم. تنهّدت تنهيدة طويلة؛ حزناً لحاله، ولكنني شعرت بأنني تعرضت لعملية خداع كبيرة طول عمري، فعادة ما كان الإعلام يضحك عليّ، ويروّج لفكرة أنه لو حدّ مات في الشارع "في بلاد بره" فلن يجد من يسأل عنه أو يدفنه، ولو وقع أو بكى لن يجد من يسنده، أو يسأله "ما لك؟"، وأتذكر تحديدا ذلك المشهد في مسلسل "بكيزة وزغلول" عندما كان الدكتور يأكل مع خطيبته المتفرنجة في محل كشري، وأصر على تعليمها الفرق بين هنا وبره، فادّعى أن قلبه يؤلمه، وبدأ يصرخ، فهرع إليه الناس يساعدونه. وليس الغريب هنا هو هذه الفكرة، ولكن الغريب حقا أننا قد نصدّق أننا مميزون عن باقي البشرية، وأن دماءنا اختُصّت بهرمونات الشهامة، وصفائح الجدعنة، وكرات النخوة دون بني البشر، المدهش أننا نستطيع أن نخدع أنفسنا إلى هذا الحد، ومثل الثعلب -الذي لم يستطع أن يدخل إلى الكرمة، فأدار وجهه وقال عن العنب إنه حامض- نحاول دائما أن نثبت جودتنا، ليس من خلال كفاءتنا كما يجب أن تكون، ولكن بالطريقة الأسهل وهي تشويه الآخر. في دقيقة واحدة من الواقع تغيّر مفهومي عن العديد من الأشياء؛ فالبشر جميعا بينهم صفات مشتركة، ولا يوجد مكان في العالم ستصرخ فيه، إلا وستجد من يهرع لنجدتك "إلا في المعتقل طبعا". البني آدمين.. بني آدمين.. والجدعنة عمرها ما كانت هرمون مخصوص في دم المصريين، ولا إيه رأيكم؟!