الأطفال أحباب الله، ولأنه أدرك هذه الحقيقة مبكرا لم يتخل عن طفولته حتى بعد أن جاوز الثمانين، عاش طويلا وكتب كثيرا، أضحك وأبكى، وبكى وضحك، لف العالم حتى شعر بأنه لا نهاية لاتساعه، وسكن زنازين المعتقلات؛ حتى أدرك أنه لا يوجد ما هو أضيق من حبس الكلمة في الحلق.
الطفولة هي سمته الغالبة؛ لأنه أدرك أن الحياة ليست سوى لعبة كبيرة؛ فقرر أن يلعبها بشقاوة، لكنه أحيانا ما يكتشف أنها لعبة قاسية فيحزن قليلا؛ لكنه سرعان ما يتمالك نفسه ويضحك على حزنه، ويضحكنا على أحزاننا.
خرج إلى الدنيا في العشرينيات من القرن العشرين، وإذا كان كل الأطفال يخرجون إلى الدنيا باكين؛ فغالبا خرج هو ساخرا ضاحكا مما يحدث ومما سيحدث، وحين أتم أعوامه العشرين بدأ يخرج إلى العالم ببنطلون مجفف، أخفت الجاكتة عورته، وجاكتة كاروهات كانت في الأصل بطانية، وكل عدته قلم حبر رخيص، وكشكول فيه بعض الأزجال، أوله عن عسكري الدورية، الذي من المفروض أن يكون حارسا للطريق؛ فإذا به قاطع طريق.
خرج قاصدا الصحافة، وهو يظن أنها صاحبة جلالة، وأن لها بلاطا، وأنها عبارة عن حفلات ورحلات، ونجم صحفي مشهور يكتب وهو جالس على كرسي في مقهى أنيق في الشانزليزيه، ونسوان كما القشطة الصابحة تعاكسه وتباكسه وتجري وراه، وزعماء يستيقظون في الليل على هدير صوته، ووزارات تسقط تحت هول كلماته.
لكن فاجأته الصحافة بما لم يكن يتخيل؛ فمن النظرة الأولى شعر بمدى بؤس الصحفيين وفقرهم، كان أول عمله في مجلة اسمها الضباب التقى فيها الرجل الذي باع الترام، وبنصاب آخر شديد الظل اسمه عسال وهو فنان نصاب؛ لأنه يحس وهو ينصب بنفس النشوة التي كان يشعر بها تشيكوف أثناء كتابة قصة.
وكانوا ينصبون على الخواجات والحكام وأصحاب النفوذ؛ لدرجة أن أحد معاونيهم كان يُقبض عليه، ثم يتبرءون منه أمام البوليس.
خرج السعدني من تجربته الأولى في الصحافة بحسرة؛ فقد الصورة الزاهية الألوان عن صاحبة الجلالة وبلاطها، وأدرك أن البلاط في الواجهة فقط؛ ولكن في القفا، بدرونات ومزابل ومطابخ ذات رائحة عفنة.
بعد هذه التجربة فكر السعدني في الانتحار، وأصابه اليأس، حتى أنه ذهب مرة إلى شاطئ النهر، ووقف يتفرج عليه، وفكر أن ينتحر وأن يلقى ملابسه على الشاطئ ليعلم الناس أن شخصا ما قد غرق في هذا المكان؛ لكنه ظل يبكي وينظر إلى القاهرة ويقول: يا للعار، هذه المدينة المترفة الجبارة التي يبعثر أهلها ألوف الجنيهات كل ليلة على موائد القمار لا تستطيع أن توفر لي عشرة جنيهات كل شهر، هي كل ما أتمناه من الحياة؟
خانته شجاعته ولم ينتحر، ليعود إلى المقاهي مرة أخرى، قبل أن يستأنف الرحلة من جديد.
والمقاهي في حياة السعدني بمثابة البيت في حياة سواه، والمقهى لديه ليس كراسي وطاولات ومشاريب؛ ولكنه ناس تتحرك وتتكلم وتضحكه وتضحك معه، ومن أوائل المقاهي التي كان يجلس عليها قهوة السروجي المواجهة لبيت الفنان طوغان رفيق؛ درب السعدني في بداياته الصحفية، كانت كما يصفها قهوة فريدة بين مقاهي ذلك الزمان.
الحياة لعبة، وعلى الإنسان أن يكون لاعبا؛ لكن بشرط أن يفهم الشروط؛ فلولا كل ما حدث ما كان محمود السعدني رائد الكتابة الساخرة في الصحافة العربية، ربما كان قد انتحر أو اشترك في عمليات النصب الصغيرة، أو ظل جالسا على قهوة السروجي حتى يومنا هذا؛ فلم نقرأ له ولم نستمتع بأدبه.
شارك السعدني بعد هذا في تحرير وتأسيس عدد كبير من الصحف والمجلات العربية في مصر وخارجها؛ فرأس تحرير مجلة صباح الخير المصرية في الستينيات، ورفع توزيعها إلى معدلات غير مسبوقة، كما شارك في الحياة السياسية بفاعلية في عهد الرئيس جمال عبد الناصر وسجن بتهم غير محددة، ثم اتُّهِم بالاشتراك في محاولة انقلابية على الرئيس أنور السادات وتمت إدانته وسجن، ثم سافر إلى لندن، وأصدر ورأس تحرير مجلة 23 يوليو في منفاه بلندن، وحققت المجلة معدلات توزيع مرتفعة في العالم العربي، ثم عاد إلى مصر من منفاه الاختياري سنة 1982م بعد اغتيال السادات واستقبله الرئيس مبارك.
خرج السعدني إلى الحياة بجاكتة كانت بطانية في الأساس؛ لكنه أصبح صديقا لعدد من الزعماء العرب مثل قائد الثورة الليبية معمر القذافي والرئيس العراقي السابق صدام حسين.
خرج طفلا وعاش طفلا؛ لأن الطفولة هي كلمة السر في حياة وشخصية السعدني؛ فهو يفرح كطفل ويضحك كطفل ويغضب ويخاصم كطفل، من فهم هذه المعادلة استطاع التعامل معه جيدا وأحبه، ومن حاسبه بقوانين الكبار خسره وكسب عداوته؛ لأنه يملك دائما القدرة على السخرية حتى في أحلك الظروف، ويستطيع إضحاك القارئ على أي شيء وأي شخص، وهو السلاح الذي لم يستطع أحد أن يجرده منه، طوال حياته الغزيرة؛ حتى اعتزل العمل الصحفي والحياة العامة سنة 2006 بسبب المرض. عم سعدني، ربنا يقوّمك لينا بالسلامة.