بعد أن تناولنا في الحلقة الماضية قصة الشهيد "سيد زكريا خليل"، الذي استطاع تصفية طاقم مروحية إسرائيلية بالكامل، وأدى الإسرائيليون له التحية العسكرية، نستمرّ مع بطولات حرب أكتوبر المجيدة.. ومن قصص وأسرار الأبطال هناك صاحب رقم قياسي عالمي في عدد الدبابات التي دمرها، إنه البطل محمد المصري. استطاع "المصري" تدمير 27 دبابة متفوقاً بذلك على زميله الأشهر "عبد العاطي" الذي دمّر 23 دبابة فقط، وهو أيضاً الذي دمّر بصاروخه دبابة العقيد الإسرائيلي "عساف ياجوري"، قائد لواء الدبابات الإسرائيلي الشهير. ولا يخفى على أحد أن هناك العديد من المعوقات التي كانت تعوق حرب أكتوبر، ومن أهمها حماية السد العالي؛ فتمّ تكليف اللواء 128 مظلات -الذي كان محمد المصري جندياً مقاتلاً فيه- بهذه المهمة. وعن أصعب الأوقات التي عاشها "المصري" خلال هذه المهمة يقول: "أصعب وقت عشته كان قبل تدمير أول دبابة؛ لأنني كنت قبل دخول الحرب أتدرب على أهداف هيكلية؛ أي أنني كنت سأواجه دبابة حقيقية لأول مرة، وكنت مرتعباً من هذه الفكرة؛ خاصة أن الصواريخ التي كنا نستخدمها (وهي روسية الصنع تسمى "فهد"، وطولها 86 سم، ووزنها 6 كجم) صعبة الاستخدام، وكنت أعرف التكلفة الكبيرة للصاروخ التي تتحملها البلد، وأعرف أن أي خطأ في توجيهه سيكون إهداراً للمال بدون وجه حق".
"المصري": أطلقت أول صاروخ ولم أصدق نفسي وأنا أرى الدبابة مدمرة بسالة جندي "ومع هذه المخاوف التي انتابتني إلا أني في يوم 7 أكتوبر خرجت في أول مهمة مع طاقمي المكوّن من جنديين يتوليان تجهيز الصواريخ؛ لأقوم أنا بإطلاقها، وبعد مرو حوالي نصف ساعة، ظهرت أول دبابة إسرائيلية، فبدأتُ في تجهيز مُعدّاتي في انتظار اقترابها؛ حتى تصبح على بعد 3 كم مني؛ حيث إن هذا هو أقصى مدى لتأثير الصاروخ، أما مداه الزمني فيَصِلُ إلى 27 ثانية، وإذا لم يصل لهدفه في المسافة والوقت المحددين؛ فإنه ينفجر في الهواء. وقبل أن أُطلق الصاروخ، اقترب مني قائدي المباشر النقيب "صلاح حواش"، ووضع في جيبي مصحفه الصغير، وقال لي بصوت مسموع: "لا إله إلا الله"، وأجبت بحماس: "محمد رسول الله".. ثم دخلَت الدبابة منطقة التأثير؛ فأطلقت أول صاروخ، ولم أصدق نفسي، وأنا أرى الدبابة تحترق، وبعد أن أصبت الدبابة صاح قائدي قائلاً: مسطرة يا "مصري" الدبابة اتشوت".
صاحب رقم قياسي عالمي في عدد الدبابات: "وبعد رؤيتي للدبابة تحترق، بدأت أشعر بالثقة والابتهاج الشديد كلما أصبتُ دبابة؛ حتى بلغ عدد الدبابات التي دمرتها 27، من جملة 30 صاروخاً استخدمتها طوال الحرب، وحققت بذلك رقماً قياسياً في تدمير الدبابات؛ إذ إن المعدل العادي لصائد الدبابات هو من 6 إلى 10".
"المصرى" مع الكاتب إبراهيم خليل عند دبابة عساف ياجورى فى مكان تدميرها بالفردان شهادة من الأعداء ومن أعظم المواقف التي تدلّ على مدى بسالة هذا البطل، شهادة الأعداء -قبل الأصدقاء- على بسالته ومهارته؛ إذ تمّ استدعاؤه لقيادة الفرقة الثانية، بعد تدميره سِرْبَ دبابات اللواء "عساف ياجوري"، وقد طلب "عساف" -بعد أسْرِه- أن يرى ذلك الشاب الذي دمّر دبابته. أصعب اللحظات ويروي "المصري" أقسى اللحظات التي مرّت عليه خلال الحرب؛ فيقول: "لقد كانت لحظة من أصعب لحظاتي، استشهاد النقيب "صلاح حواش" (قائد فصيلتي)؛ حيث كنت قد انتهيت من تدمير دبابة من دبابات الأعداء، وكان يرقد بجانبي؛ فهتف معلناً سعادته بي، ووقف ليُحضر لي زمزمية ماء كانت موضوعة خلفنا، وفي هذه اللحظة التي وقف فيها، أصابته دانة مدفع حوّلت جسده إلى أشلاء، وحوّلت -في لحظة- الرجل الذي كان يمتلئ حماساً وإيماناً إلى كومة من اللحم والعظام.. وبكيته وكنت أبكي فيه معانيَ جميلة كثيرة عشتها معه، رحمه الله".
لم ينَلْ "المصري" من التكريم ما يكفي لقاء ما حققه من بطولات تواضُع بطل وعلى الرغم من أنه قد سجّل رقماً قياسياً في عدد الدبابات التي دمّرها خلال الحرب؛ فإنه لم ينَلْ من التكريم ما يكفي، لقاء ما حققه من بطولات؛ إذ كان من المفترض أن يتمّ تكريمه في الجلسة التاريخية لمجلس الشعب؛ لكن اسمه سقط سهواً! وبعدها سلّمه المشير "أحمد إسماعيل" -وزير الحربية- وسام نجمة سيناء، كما دعاه الرئيس السادات لحضور حفل إعادة افتتاح قناة السويس في 5 يونيو 1975، ومنذ ذلك التاريخ غاب البطل محمد المصري تماماً عن الأضواء، منعزلاً في قريته التي حملت اسمه، بمحافظة البحيرة.
ونستمرّ في سرد بطولات أشهر أبطال حرب أكتوبر المجيدة، ونكشف معاً أهم ملفات المخابرات المصرية بعد الحرب. انتظرونا في الحلقة الأخيرة من ملفات حرب النصر واسترداد الكرامة.. عن قصة أسرة سقطت في بئر الخيانة، ليستقرّ بها الحال في مراحيض تل أبيب.
فتابعونا،،، شكر واجب لموقع "المؤرّخ"، الذي استقينا منه هذه المادة.