نجحت في الثانوية العامة.. ذلك "البعبع" الذي يؤرّق كل شاب وشابة، وكل أسرة مصرية، في مرحلة من المراحل؛ بسبب سوء السياسة التعليمية، التي خالفت كل النظم العلمية والعالمية، وأصرّت على دخول الجميع الجامعة، تماما كما لو أنها تنشئ جيشا من ضباط أركان الحرب فقط، دون جنود أو صفّ ضابط؛ ولأن السياسة التعليمية غير منطقية، صار من الطبيعي أن ينقضّ مئات الألوف على الجامعات كل عام، ويتسابق الجميع على الالتحاق بكليات بعينها، فيتحوّل الأمر كله إلى رعب ما بعده رعب.. ولكنني اجتزت هذا "البعبع" بنجاح.. لم يكن مجموعي مبهرا، ولكنه كان يكفي لألتحق بكلية الطب، التي لم تكن على رأس اهتماماتي، أو في الدرجة الأولى منها.. في الواقع، ولأنني ورثت موهبة الرسم عن أمي، كنت أرغب وبشدة، في الالتحاق بكلية الفنون الجميلة، ولكن الجميع كانوا يعارضون هذا بشدة، وعندما خرجت في الصباح لرؤية النتيجة، لم يكن لديّ أدنى شك في النجاح، ولكنني لم أعلم كيف سيكون مجموعي بالضبط، ولما علمت أنه مرتفع نسبيا -بمقاييس زمني- عدت إلى منزلي مع أحد الزملاء، وأمام باب الشقة، كتمت أنفاسي بضع دقائق، حتى احتقن وجهي بشدة، ثم قرعت جرس الباب، وعندما فتحت أمي الباب ملهوفة، ورأت وجهي المحتقن، سألتني عن النتيجة، فخفضت عيني أرضا، وقلت لها في أسى: "يمكن السنة الجاية تبقى أحسن".. فوجئت بوجهها يمتقع، وكادت تسقط فاقدة الوعي، فشعرت بفداحة وسخافة ما فعلت، وأسرعت أخبرها أنني قد نجحت، وبمجموع كبير.. وهنا تفجّرت الفرحة في منزلنا كله، وراحت والدتي تبكي من فرط السعادة، في حين ابتسم والدي في رصانة، وكان هذا أفضل تعبيراته عن السعادة، رحمه الله.. وفي المساء فاجأت الجميع برغبتي في دخول كلية الفنون الجميلة، وبنجاحي في امتحان القدرات، الذي يؤهّل لدخولها، ولم أكن أتوقع أبدا ردّ الفعل.. أمي كادت تسقط مغشيا عليها مرة أخرى، وأبي قلّب شفتيه في امتعاض، واتّهمني بالحماقة، وخالي أخبرني أنني "ولد تافه".. وخلال اليومين التاليين، لم تتوقّف مشاحناتنا بخصوص هذا الأمر، وتآزر الجميع لإقناعي بدخول كلية الطب، وليس الفنون الجميلة، وأخيرا، حسمت أمي الأمر، عندما بكت، وأخبرتني أن هذا حلم عمرها.. ولقد كنت، وما زلت شديد الضعف أمام دموع أمي، لذا فقد رضخت فورا، وكانت الرغبة الأولى في التنسيق هي طب طنطا.. ولكن روح التمرّد في أعماقي لم تهدأ، لذا كانت الرغبة الثانية، في استمارة الرغبات، هي معهد إعداد الفنيين التجاريين.. لم أدرك أيامها كم يستفزّ هذا والدي، ويثير حفيظته، ويجعله يتعامل معي باعتباري شابا مستهترا، لا يدرك أو يستوعب حقائق الحياة، أو يتعامل معها بجدية.. ولكن هذا انتهى على خير، ولله -سبحانه وتعالى- الحمد، بوصول خطاب مكتب التنسيق، بقبولي في كلية الطب.. أيامها، كانت حياتي تتّخذ منحنى مختلفا تماما.. كنا نقيم، أبي وأمي وشقيقاتي وأنا، في شقة معقولة، وكان جدي وجدتي لأمي يقيمان وحدهما في شقة فسيحة للغاية، تتكوّن من خمس حجرات واسعة جدا، وصالة في حجم شقتنا، وكان جدي -رحمه الله- شبه مُقعد، لا يقدر على الحركة بمفرده، ويحتاج إلى معاونة مستمرة، ورعاية دائمة، وكانت جدتي -رحمها الله- هي المعاون الوحيد له.. وعندما ذهبت لأخبرهما بنجاحي، شعرت بخجل شديد؛ لأن جدتي تبذل كل هذا الجهد وحدها، وأنا لست هناك لمعاونتها، لذا فقد عدت إلى منزلي، وحملت كل ملابسي وأوراقي، وانتقلت للعيش مع جدي وجدتي؛ لرعايتهما والعناية بهما.. وكانت الحياة هناك مختلفة تماما.. في منزلنا، كان المكان يضجّ بالحياة طوال الوقت، فمع وجود ثلاث شقيقات، كان منزلنا يمتلئ دوما بصديقاتهن، وبكل ما يطلقنه في المكان من مرح وضحكات وروح مفعمة بالحياة.. وفي منزل جدي كنت منعزلا تماما في حجرتي.. صحيح أنها كانت حجرة واسعة للغاية، تضمّ سريرا ضخما، ومكتبين ومكتبتين، وأنتريها كاملا، ومساحة كبيرة للحركة، ولكنني كنت أقضي معظم الوقت فيها وحدي، وأخرج منها عندما يناديني جدّي، أو تحتاجني جدتي.. وهكذا بدأت عامي الدراسي الأوّل، في كلية طب "طنطا".. عالم الجامعة يختلف تماما عن المرحلة الثانوية.. هذا ما أدركته، منذ اللحظة الأولى.. إنه عالم أكثر حرية، وأكثر نضجا، وأكثر انفتاحا.. أو هكذا كان.. على الأقل لم يكن بها جرس دخول، أو طوابير صباح، أو تحية علم إجبارية.. وبالنسبة لجيلنا، كان بها مزيّة أخرى، لم نحظَ بها طوال دراستنا الثانوية.. كانت مشتركة.. بنين وبنات.. وكانت فترة سياسية ذهبية بحق.. "السادات" اكتسب ثقة شديدة، بعد انتصار أكتوبر، وصار زعيما عربيا يشار إليه بالبنان، وأطلق موجة حرّيات حقيقية، وبدأ يتحدّث عن الانفتاح والرخاء القادم بعد الانتصار.. وصدّقه الناس.. وكل شيء من حولنا كان يجعلنا نصدّقه.. الدول العربية كلها صارت تدعم اقتصادنا بعد الحرب.. الصحافة صارت حرة بنسبة كبيرة.. الشرطة حدّت من عنفها وجبروتها إلى حدّ ملحوظ.. ثم بدأ الانفتاح.. كنا في سنوات الجامعة الأولى، عندما بدأ عصر الانفتاح، بتلك المنطقة الحرة في "بورسعيد"، والتي تهافت الشعب كله عليها، بعد أن ظل لأكثر من عقدين من الزمان يحيا في خندق اقتصادي محدود.. بضائع مستوردة، وأخرى لم نكن نعرفها، إلا من خلال بوتيكات التهريب، وشارع "الشواربي" الشهير، والذي صار الآن شارعا شعبيا.. وفي كل يوم، كان الناس يسافرون إلى "بورسعيد"، ويشترون كل ما يزغلل عيونهم، ويحبس أنفاسهم، وكثيرا من أشياء تافهة، لم تكن متوافرة من قبل، مثل علب المياه الغازية، وأقراص اللبان، وعلب التونة وغيرها.. وتحوّل الانفتاح، كما وصفه الراحل الكبير "أحمد بهاء الدين"، إلى "سداح مداح"، وانقلبت صورة المجتمع رأسا على عقب.. ثروات مباغتة، هبطت على فئات عجيبة، بلا مقدمات، من خلال عمليات تهريب كبرى.. اختلاط بين الطبقات، نشأ من وجود المال مع طبقة، والأصول مع طبقة أخرى، والعقل والحكمة مع طبقة ثالثة.. في تلك الفترة ظهرت أفلام تعبّر عن هذا الموقف، أشهرها فيلم "انتبهوا أيها السادة" الذي تحدّث عن أستاذ جامعي، فشل في الزواج من خطيبته، لدخول زبّال في اللعبة، يملك المال، الذي يفتقر إليه الأستاذ الجامعي المثقف.. وبالطبع، فاز الزبّال بالصفقة.. وخسر العلمُ.. الفيلم كان بطولة النجم محمود ياسين، والنجم حسين فهمي، والفنانة ناهد شريف، وكان صورة مبالغة، ولكنها معبّرة عن الواقع، على نحو رمزي.. وفي الكلية، شهدنا صورة للحرّية، لم يعد يشهدها هذا الجيل المظلوم.. ففي عامي الأوّل، رشحت نفسي للجنة الفنية، وكنت قد عُرفت كرسام كاريكاتير، ينشر مجلة حائط أسبوعية، مع الزميل "سمير حنتيرة".. لم أخض الانتخابات في صعوبة؛ لأنني كنت وصديق العمر، "عاصم غلاب" -مدير مستشفى الهلال في طنطا حاليا- نكوّن جبهة واحدة شهيرة في الكلية، أمام طالبين ليس لهما نشاط فني تقريبا.. وهكذا فزنا باكتساح.. وأصبحت عضوا في اللجنة الفنية بالكلية.. وبدأت مرحلة جديدة.. واقرأ أيضاً لمحات من حياتي (1) لمحات من حياتي (2) لمحات من حياتي (3) لمحات من حياتي (4) لمحات من حياتي (5) لمحات من حياتي (6) لمحات من حياتي (7) ومات عبد الناصر لمحات من حياتي (8) السادات ومراكز القوى لمحات من حياتي (9) السادات والتصوير والبهائية لمحات من حياتي (10) تعلّمت من التوراة والإنجيل لمحات من حياتي (11) أنا و"تان تان" لمحات من حياتي (12) حماس أكتوبر الذي لم ولن أرى مثله لمحات من حياتي (13) حينما انتصرت شلة الغلابة!