منذ الآن صفحة شوية هوا ليست فقط إبداعات من اختيارنا بل من اختياركم أنتم أيضا.. تستطيعون من خلالها أن تجعلوا الصفحة ليست قصيدة أو قصة قصيرة فحسب، بل أي جزء من إبداع الكُتاب المعروفين وغير المعروفين.. أبيات تعجبكم.. كلمات دونتموها في مذكراتكم.. حوار صغير دار بين أبطال رواية تحبونها.. في انتظاركم الرصيف إحسان عبد القدوس أنا رسام.. وعندما أرسم وجها من الوجوه التي أختارها، لا أرسم ما أراه بعيني، ولكني أرسم صورة صاحب هذا الوجه كما أتخيله.. أرسم رأيي فيه.. أرسم حكمي عليه.. وصحيح أني أتقيد بملامح الوجه، ولكن النظرة التي تطلّ من العينين، والتعبير المرتسم فوق الشفتين، ومجموعة الألوان التي تملأ اللوحة و... و... كل ذلك ينبعث من داخلي، ويكوّن رأيي في الوجه الذي أرسمه.. وقد لا تعرف أن كل لون من الألوان التي أستعملها هو عبارة عن رأي يختلف عن الآخر.. الأزرق له معنى غير الأحمر، وغير الأصفر، وغير الأخضر.. وهكذا..! وقد تعودت أن أنظر إلى وجوه الناس الذين ألتقي بهم، وأرى فيها أكثر مما يراه الرجل العادي.. أنظر إليها بعيني فنان، وأرى فيها موضوعا، لا مجرد شكل.. فإذا أثارني وجه من هذه الوجوه وكوّنت فيه رأيا، دعوت صاحبه ليجلس أمامي، وأرسمه.. وغالبا ما يرحّب الجميع بدعوتي.. لم يحدث أبدا أن رفض أحد الجلوس أمامي.. وغالبا أيضا لا يعجب بالوجه الذي أرسمه له.. إنه يرى وجهه في اللوحة، ولكنه يرى بجانب وجهه رأيي فيه فيغضب!
إلى أن التقيت بسوسن.. التقيت بها على شاطئ البحر في رأس البر.. رأيتها من بعيد.. وتعلقَت بها عيناي كأني أشهق..
لم أرَ من قبل مثل هذا الجمال.. جمال بريء.. هادئ.. مريح.. كالدموع.. كالنغم الحزين.. كالتنهد.. وشعرها في لون البندق.. تشده إلى الوراء، كأنها تخشى أن يسرقه منها الهواء.. وعيناها ملوّنتان، واسعتان، فيهما دهشة دائمة.. دهشة ساذجة، كأنها دهشة طفل يفتح عينيه على الحياة لأول مرة.. ولم تكن ترتدي مايوها كبقية البنات.. كانت ترتدي ثوبا أزرق، مقفولا حتى رقبتها، وأكمامه تصل إلى منتصف ذراعيها.. وكانت تعبث بأصابعها في الرمال.. وقفت أبحلق فيها من بعيد، وخيالي يرسم لها صورة.. واحترت في عنوان الصورة.. هل أسميها "القديسة" أو "الطاهرة" أو "براءة" أو "ملاك".. أو.. أو.. ولم تلتفت إليّ سوسن.. إنها أشد براءة من أن يمسّها غبار آدمي مثلي.. أشد طهرا من أن ترفع عينيها إلى مخلوق من طين.. وقضيت يومي أحلم بالصورة التي أرسمها لها.. ثم مضت الأيام ولم أعد أحلم بالصورة، بل أصبحت أحلم بها.. بها هي.. بشخصها.. كأني أحببتها.. ربما أحببتها فعلا.. وكان يجب أن أعرفها.. وأن أرسمها.. وأصبحت أتبعها وأنا أبحث عن الطريق إليها.. وعرفت كل أقاربها، وكل صديقاتها، وصديقات صديقاتها.. إلى أن وجدت فتاة أعرفها، ويمكن أن تقدمني لها.. و..
وعرفتها.. وفي أول لقاء، لم أستطع أن أنتظر أكثر مما انتظرت، فدعوتها لأن تجلس أمامي لأرسمها.. وقبلت.. قبلت فورا.. لا شك أنها تؤمن بالفن.. ولذلك قبلت بهذه السهولة، وبهذه السرعة. وواعدتها على أن تأتي إلى "العشة" التي أقيم فيها مع عائلتي.. إن معي أخواتي البنات.. وليس هناك غبار على هذه الدعوة.. وقبلت..
وقضيت الصباح كله أعد نفسي لاستقبالها.. اخترت المكان الذي تجلس فيه بحيث يبدو البحر من ورائها، ليضفي على اللوحة مسحة شاعرية.. واشتريت زهورا بيضاء في لون الطهر، ووضعتها بجانب المقعد الذي تجلس عليه.. واخترت الألوان التي سأرسمها بها.. كلها ألوان هادئة بريئة.. الأزرق، الأخضر، والأصفر.. و... وجاءت.. وأجلستها في المكان الذي اخترته لها، وأنا أرتجف من النشوة.. كأني مقبل على أهم عمل في حياتي.. كأني على وشك أن أدق بفرشاتي باب كنز.. كنز الخلود.. كنز المجد..
وبدأت أرسم وجهها.. ولم تمضِ دقائق حتى بدأت سوسن تتكلم: - قل لي يا أستاذ وحيد.. إنت هتنشر الصورة دي في أي مجلة؟ وكذّبت أذني.. لا يمكن أن تكون سوسن حريصة على أن تنشر صورتها في المجلات.. إنها أكثر براءة من ذلك.. لعلها تريد أن تطمئن.. وأجبتها: - مش هانشرها أبدا.. وسمعتها تقول في حسرة: - يا خسارة! وعدت لأكذّب أذني.. ولكنها استطردت: - يعني ماحدش هيشوفها أبدا؟؟ وقلت وأنا أغالب نفسي: - إزاي.. ناس كتير هيشوفوها. قالت: - أنا عايزاك ترسمني حلوة أوي.. علشان أغيظ صاحبتي ميرفت.. وكنت في هذه الأثناء أرسم شعرها.. كنت أرسم بلون بندقي هادئ.. فإذا بي دون أن أدري، أضيف إليه كثيرا من اللون الأصفر، فيبدو في الصورة، كأنه شعر مصبوغ.. رخيص!
وبدأت سوسن تتململ في جلستها.. وعادت تتكلم: - قل لي يا أستاذ وحيد.. إنت تعرف ترقص التشاتشا.. وارتعشت الفرشاة في يدي.. وقلت: - لا يا أفندم.. قالت: - يا خسارة.. لازم تتعلّمها.. ولو حبيت أعلّمها لك أنا.. لماذا تتكلم هذه الفتاة؟! لماذا لا تسكت، حتى تصون لي خيالي الذي أرسمها به.. حتى تصون لي رأيي فيها. وكنت في هذه اللحظة أرسم عينيها.. كنت أرسمها بلون يغلب عليه الأزرق الفاتح.. كلون البحر الذي يطل من ورائها.. كان في عينيها رحيق الطهر.. ودون أن أدري اختلطت الألوان في فرشاتي.. وإذا بالألوان الفاتحة تغمق، وإذا بي أرسم عينيها، وليس فيها دهشة الطفل، ولكن فيهما جوع.. جوع القطة النهمة!
وازداد تململ سوسن في جلستها.. إنها لا تستطيع أن تستقر.. لا تستطيع أن تهدأ.. ولمحتها ترفع ثوبها عن ساقيها، كأنها تغريني بهما.. كأنها تحاول أن تغريني.. وكنت في هذه اللحظة أرسم شفتيها.. الشفتان اللتان تخيلتهما هادئتين نظيفتين.. كشفتي الجيوكندا.. وإذا بي أرسمها شفافة غامقة في لون الدم.. مثيرة متسخة!! وتعبت..
وطلبت من سوسن أن تأتي في اليوم التالي بالثوب الذي تريدني أن أرسمها به.. وكنت قد أعددت في خيالي ثوبا مقفولا لونه أخضر فاتح.. ولكنها جاءت إليّ بثوب أسود مفتوح.. ثوب يكشف عن لحم صدرها، عن كل ظهرها.. ووقفت تتمايل أمامي، وتقول لي: - حلو الفستان يا أستاذ وحيد؟ مش حلو والنبي؟ ده أنا واخدة الموديل بتاعه من كريستيان ديور. ورسمت الفستان في لون أحمر فاقع.. يكشف عن ساقيها وصدرها، ولم أرسم خلفها مياه البحر الزرقاء.. بل رسمت فانوس نور!!
ولم أرَ سوسن بعد ذلك.. لا أريد أن أراها.. وقد عرضت صورتها في معرضي، وأسميتها: الرصيف!!