لاعب يشير لرئيس ناديه السابق بإشارات بذيئة، ونطلق عليه لقب "كابتن"، وآخر يتهجّم على مجلس إدارة ناديه بالكامل ونسمّيه "القيصر"، وثالث ضلّ طريقه إلى إحدى القنوات الفضائية في غفلة من الزمن ينعت نفسه ب"الإعلامي الكبير"، ومطرب لم يتعدَّ عمره الفني السنوات التسع، وتطلق عليه الصحافة "وحيد القرن" أقصد "مطرب القرن"! فمن الذي أعطى هؤلاء الحقّ في صكّ تلك الألقاب، وخاصة في ظل وجود قرار بإلغاء الألقاب الذي تمخّضت عنه ثورة يوليو 1952؟! لقد ظلّت الثورة لفترة تبحث عن ألقاب بديلة مثل السيد والسيدة، إلا أنها ألقاب لم تصمد -لعدة أسباب- ليظهر لنا باشوات وبكوات جدد، فأصبح لقب "باشا" و"بك" هو اللقب الرسمي في تعاملات ضباط الشرطة سواء بينهم وبين المواطنين أو حتى بينهم وبين أنفسهم، سواء بطريقة مباشرة أو من خلال النداءات الصادرة عن أجهزة اللاسلكي الخاصة بهم، رغم أن ضباط الشرطة تحديدا لم يكونوا من المميّزين اجتماعيا قبل الثورة، فكان من الضروري أن تكون "ابن ناس" حتى تُقبل في المدرسة الحربية، بينما ظلّت كلية الشرطة متاحة أمام صغار الموظفين، لكن يبدو أن ضباط الشرطة قرّروا ضمن سلسلة تحقيق المكاسب أن يحصلوا على الألقاب كغنيمة حرب، وإذا كان الخديوي إسماعيل دفع نحو 32 ألف جنيه قبل ما يزيد على 140 سنة ليحصل على لقب "خديوي" من السلطان العثماني؛ لشعوره بأن لقب "والي" لا يناسب موقعه وأهميته، أي أن الألقاب كانت في الزمن الماضي رمزاً للوجاهة الاجتماعية أو المنصب الحكومي، وكانت تُباع وتُشترى، وكانت الرتب والألقاب يتسابق إليها الناس، ومع أنها لم تكن إلا مجرد ألفاظ تُضاف إلى الأسماء إلا أنها كانت تكلّف طلابها الشيء الكثير، أما اليوم وفي ظل فوضى الألقاب أصبح يُطلَق على السبّاكين والسائقين لقب "الباشمهندس"، وعلى الحلاقين لقب "الدكتور"! وكثيرا ما كانت هذه الرتب والألقاب تثير أزمات سياسية واجتماعية، حدث هذا عندما تولّى سعد زغلول رئاسة الوزراء في سنة 1924، وعلم أن الملك فؤاد يعدّ كشفا بالألقاب التي ستُمنح بمناسبة العيد، فأصرّ سعد زغلول على أن هذا العمل طبقا لدستور 1923 من اختصاص مجلس الوزراء، وأن دور صاحب الجلالة هو إصدار المراسيم فقط، وكان له ما أراد. في سنة 1944 كانت شهرة أم كلثوم قد بلغت عنان السماء، ففكّر الملك فاروق في الإفادة من شعبية المطربة الكبيرة، فقرر منحها وسام "الكمال" تقديراً لموهبتها وفنّها، وفي إحدى الحفلات التي غنّت فيها أم كلثوم منحها الملك فاروق وسام "الكمال"، لتصبح أول امرأة مصرية لا تنتمي للطبقة الأرستقراطية من الباشوات والأعيان تلقّب ب"صاحبة العصمة"، مما أدى إلى اندلاع شرارة الغضب في نفوس أميرات قصر عابدين ذوات الأصول التركية والألبانية، حيث اعتبرن أم كلثوم فلاحة مصرية لا يصحّ أن تُمنح الوسام الذي يُعطى للأميرات، وزوجات رؤساء الوزراء، وطالبت الأميرات باسترداد الوسام، ولكن الملك رفض بشدة. وعندما جاءت ثورة 23 يوليو 1952 ألغت الرتب والألقاب في عهد وزارة "علي ماهر" باشا الذي عيّنته الثورة رئيساً للوزراء في أول أيام قيامها، وفي ثاني اجتماع لوزارة "علي ماهر" تقرّر إلغاء جميع الألقاب؛ بناء على مبادئ الثورة، وكان ذلك في أول أغسطس سنة 1952، والطريف أن مجلس الوزراء الذي ألغى الرتب والألقاب كان غالبية أعضائه من حملة الرتب والألقاب التي تمّ إلغاؤها في جلسة مسائية. ولم تكن الألقاب المدنية هي الوحيدة التي لم تعجب الضباط الأحرار، فقرّروا إلغاءها، بل تدخّلوا أيضا في الرتب والألقاب الخاصة بضباط الجيش والشرطة، وهي رتب اليوزباشي والصاغ والقائم مقام والبكباشي والأميرالاي، وجعلوها في أسماء أخرى، فأصبحت "ملازم أول" و"نقيب" و"رائد" و"مقدّم" و"عقيد" و"عميد"، وهكذا، والسبب في ذلك أن الرتب السابقة كان تميّز الضباط الأحرار عندما قاموا بالثورة، كما أنها ظلّت ملاصقة لأسمائهم فترة ليست بالقصيرة، لذلك فقد يظنّ أي ضابط في الجيش يصل إلى رتبة البكباشي مثلا أنه يمكن أن يقود ثورة، ويصبح جمال عبد الناصر آخر! ثم شهدت فترة منتصف السبعينيات –فترة الانفتاح- عودة الألقاب مرة أخرى، ولكن بطريقة عشوائية غير رسمية، خاصة لقبي الباشوية والبكوية، وأصبحت الألقاب التي كانت تُمنح لمن يؤدّي خدمات كبيرة للبلاد شائعة بلا صاحب، حتى أطلقت في هذه الفترة على فئة من أصحاب الأموال والأغنياء الجدد، الذين استفادوا من مرحلة الانفتاح، وكوّنوا ثروات كبيرة، ولقّب كل واحد منهم نفسه بالباشا لزوم الوجاهة والمظهر الاجتماعي، و"الفشخرة الكدابة"، خاصة أن معظمهم كان ينتمي لطبقات شعبية بسيطة لم تعرف لها الألقاب طريقا أبدا! وفي بداية التسعينيات ظهر لقب جديد استحوذ على اهتمام الكثيرين، وهو لقب "رجل أعمال" أو "سيدة أعمال" الذي يعطي لصاحبه مكانة متميّزة في أي مكان يوجد فيه، خاصة أنه ارتبط بعملية الخصخصة وبيع شركات القطاع العام ونشأة المدن الصناعية الجديدة. ولم يكن غريبا أن يزيد عدد الأشخاص الذين يلقّبون أنفسهم برجال الأعمال، فرأينا البقال وصاحب محلّ الأدوات الصحية وتاجر الخردوات، بل بعض النصابين، ومحترفي التهريب، كل واحد منهم يسمي نفسه "رجل أعمال" الذي أصبح وظيفة من ليس له عمل! إلا أن هذا اللقب تحوّل في بداية القرن الحالي إلى لقب سيئ السمعة، بعدما كثرت عمليات هروب عدد من رجال الأعمال إلى الخارج، بعد استيلائهم على قروض كبيرة من البنوك بضمانات وهمية، مما أثار خيال كتّاب الدراما، ويا للعجب فبعد التسابق على نيل اللقب والمفاخرة به أصبح هناك من يتبرّأ منه، ويستبدله بألقاب أخرى ك"رجل الصناعة"، أو "رجل التجارة"، لذا يجب تنظيم عملية إطلاق الألقاب بدلا من "السيد الأستاذ الدكتور المحافظ"، وإصدار قانون يعاقب كل من ينتحل صفة أو لقبا ليس من حقه، حتى لو أدى ذلك إلى عودة شراء الألقاب من جديد، بدلا من مشاهدة عرض طويل ومستمرّ ومملّ من تلك ال"شيزوفرينيا" المصرية الخالصة مليون المية.