الانتقال لخانة أعداء الوطن مَن يتذكّر الشهيد "علي خاطِر"؟.. لا أعتقد أن عدد مَن يتذكّرونه مِن أبناء هذا الجيل كما كان من أبناء جيلي -جيل الثمانينيات- والعيب ليس على مَن لا يذكرونه، بل على مَن قاموا بالتشويش على ذكراه، وذكرى شهداء الشرطة الأبرار، الذين سقطوا في أيام كانت فيها الشرطة -إلى حد ما- في خدمة الشعب بالفعل! كيف جرى ذلك؟ كيف انتقل رجل الشرطة من خانة البطل حامي المواطنين إلى خانة الخصم الأول لنفس المواطنين؟! ذلك الرجل الذي كان رجل الشارع يتعاطف معه خلال عِقدَي الثمانينيات والتسعينيات عندما كانت مصر تعيش حربًا ضارية ضد الجماعات الإرهابية، وكانت موجات الاستنكار الشعبي لتعرّضه للاستهداف من الإرهابيين قوية ملحوظة، وحتى الطفل كانت إجابته التقليدية على سؤاله عن طموحه هي "عايز أطلع ظابط"، بل كان بعض أطفال بعض الطبقات البسيطة يصرّون على أن تكون ملابس العيد "بدلة ضابط"، وكانت اللعبة الأكثر شعبية بينهم هي "عسكر وحرامية".. نفس الطفل الذي كانت أقواله وأفعاله الطفولية تشي باحترام الشرطة صار هو الشاب الذي يخرج في مظاهرات ضد ممارساتها مع المواطنين، والصحفي الذي يهاجمها بقلمه، والحقوقي الذي ينشر المقالات والفيديوهات المُدينة لأفرادها، ومن يدري؟ ربما أصبح مصير هذا الطفل كخالد سعيد وعماد الكبير، ضحية لهذا الشرطي الذي كان يومًا ما مثله الأعلى! أنا نفسي كنت هذا الطفل يومًا، وكنتُ المراهق الذي تألّم للقتل الغادر للشهيد "علي خاطر"، ولكل شهداء الشرطة، واليوم أنا الشاب الذي قال منذ أيام قليلة في دردشة مع بعض أصدقائه إنه لو وجد يومًا شرطيًا غارقًا في دمائه على قارعة الطريق، فلن يلتفت له، ولن يكترث لموته أو نجاته، حتى لو كان بيدي أن أنقذه! يومها سألت نفسي: كيف تحولْتُ لصاحب هذا الرأي الصادم؟ هذا وأنا الرجل المثقف الذي لا يقبل الأذى للناس، فماذا عمن هم أقل ثقافة وأكثر غضبًا؟ كيف يمكن أن يصل الغضب بالكثيرين -وأنا في النهاية واحد منهم- لهذا الحدّ من الشعور العدواني الأسْود لأفراد الشرطة بهذا التعميم الذي اعترف أنه ظالم؟ إن ذلك يقودني لإجابة مخيفة: لقد انتقل جهاز الشرطة -بأكمله- في الضمير الجماعي للمواطنين من تصنيفه كحامي للوطن إلى تصنيفه كفرد في قوات احتلال هذا الوطن وأعدائه.. صحيح أن قلة ترفض هذا التعميم، ولكن ثمة واقع يقول إنها "قلّة"، ومن المؤكد أن كونها كذلك لم يحدث عبثًا! الغشومية "الأمن في مصر ليس ظالمًا.. بل غشيمًا!".. هذا رأيٌ كثيرًا ما أقوله عندما أشترك في نقاش حول الممارسات اللا إنسانية لجهاز الشرطة، بالله هل من وصف آخر لعملية "تسخين الغضب الشعبي" التي تمارسها أجهزة الأمن، كأنما تسير على تعليمات كتاب "كيف تقيم ثورة ضدك"؟! تعالَ ننظر لذلك الذي يتعرّض لقهر الشرطة وظلمها، هو غالبًا شخص بسيط ومصدر كسبه محدود، ويحمل تلاً من المسئوليات، ولديه من الهموم ما يكفيه وزيادة، وفوق ذلك يلقيه سوء طالعه في طريق رجل شرطة "مفتري" يمارس معه القهر أو الظلم أو التعذيب -ماديًا أو معنويًا- وغالبًا يتمادى في ذلك لأقصى الحدود. بحقّ الله كيف يضمن ذلك الشرطي ألا يكون ذلك المواطن المطحون من كل جانب قد قرر أن "يستبيع" ويرد العنف بعنف؟ ما هي احتمالات أن يقرر هذا الرجل أن "العملية خسرانة خسرانة"، ويسحب سلاح هذا الضابط أو يكون معه سلاح أبيض -لو كان من أهل ذلك وهُم كُثُر- أو حتى يترصّد للضابط، ويقتله؟ لا أريد أن يُفهَم كلامي على أنه دعوة للعنف، ولكن لو تحدثتُ عن نفسي فإني -لو وُضِعتُ مكان هذا الرجل- سأفعلها! وفي المرات القليلة التي خرجت فيها لمظاهرة كنتُ أحمل في داخلي تصميمًا أنني لو تعرضتُ لمحاولة إيذاء بدني ولو بالجذب من مخبر أو عسكري أو ضابط فإني سأردّ العنف بعنف أشد، ولو سقطتُ قتيلاً! هذا تفكير شاب متعلّم معروف أنه يكره العنف (وقد وجدتُ أن الكثير من الشباب المثقّف يتفق معي فيه)، فماذا عن المواطن ضعيف الثقافة حارّ الدماء؟ صحيح أن هذا لم يحدث حتى الآن إلا نادرًا (كصدام الباعة الجائلين في منطقة ميامي بالإسكندرية مع قوة الإزالة). لقد انتقل جهاز الشرطة -بأكمله- في الضمير الجماعي للمواطنين من تصنيفه كحامي للوطن إلى تصنيفه كفرد في قوات احتلال هذا الوطن وأعدائه ولكن من يضمن عدم حدوثه؟ إن رجلاً محاصَرًا بالأعباء المالية، مطحونًا اجتماعيًا وماديًا، ضعيف الثقافة، يحمل سخطًا على كل السلبيات التي تخنقه، وغضبًا عاتيًا من تعرّضه لتجبّر هذا أو ذاك، ورغبة في الانتقام لا تسمح له ثقافته أن يتخيلها إلا بالذراع، هذا الرجل هو آخر خصم أتمنى مواجهته ولو من بعيد! ولكن فيما يبدو جهاز الشرطة بلغ من الثقة بنفسه مرحلة التعامي عن حقيقة أن مثل هذا الرجل قابل للوجود، رغم أن تجارب سيئة للشرطة مع هذا النوع من الأشخاص.. فمن ينسى -مثلاً- ما حدث منذ عدة سنوات من مهاجمة قسم شرطة المنتزه بالإسكندرية، وتحطيمه، وإلقاء قنابل مولوتوف عليه من قِبَل رجال أحد كبار التجار بالمدينة، بعد أن قام أحد ضباط القسم بقتل ابنه؛ لمقاومته محاولة هذا الضابط سرقة كلبه البوليسي؟! السؤال الكابوسي: ماذا لو أصبح كل هؤلاء الغاضبين أكثر تنظيمًا، وتحوّل الأمر لمواجهة قوّة فقدت شرعيتها بمخالفتها القانون بشكل منهجي، لقوة شعبية قرّرت أن تأخذ حقها بيدها؟ ألن يكون هذا إعادة لمصر إلى بحر الدماء الذي كادت تغرق فيه يومًا، وإهدارًا لدماء الشهداء الذين راحوا وهم يحاولون إخراجها منه؟! ضياع الشرعية الجدير بالذكر أن تجاوزات رجل الشرطة تسمح بالفعل بمقاومته -طبقًا للقانون- حيث يكفل القانون حق الدفاع الشرعي عن النفس لمن يتعرض لتصرف يشكل خطرًا على نفسه أو أهله أو أصدقائه أو ماله، وهو لا يكفله للمجني عليه فقط، بل لأي مواطن يرى ذلك التعدي من مواطن -أيًا كانت صفته- على مواطن آخر! أي أن رجل الشرطة الذي يتصرّف بشكل مخالف للقانون يجعل نفسه عُرضة للمقاومة، وبالتأكيد لن يستجيب الشرطي لمقاومة المواطن له إلا بالعنف، والعنف لا يولّد إلا العنف.. وهنا سيفقد الشرطي شرعيته القانونية ويتحوّل ل"خارج على القانون"، بينما يتحوّل المواطن إلى "منفذ للحق في الضبط للجاني المتلبس بفعل مخالف للقانون"! لاحظ أننا نتحدّث عن شرطي واحد، ومواطن واحد، ماذا لو تحدّثنا عن جهاز شرطة كامل ينتهج العنف الزائد والتعذيب.. في مواجهة مواطنين غاضبين قرّروا عدم السكوت على ذلك؟! لكل داء دواء والحل عند الشرفاء بهذا الشكل وبهذه الحسبة البسيطة سنرى أن انتهاج الأمن -بطريقة منظّمة متعمدة متكررة- لأساليب منافية للقانون مثل: إساءة معاملة المواطنين، تعذيب المتهمين، استخدام العنف مع الناشطين السياسيين، الاعتقال بدون أسانيد قانونية... إلخ ينقل رجاله من خانة "حماة الوطن" إلى خانة "أعداء الوطن".. المشكلة أن رد الفعل لن يكون دائمًا في شكل وقفات احتجاجية ومظاهرات منددة ودعاوى قضائية منظّمة، فلنلاحظ أننا نعيش في بلد به نسبة مخيفة من الجهل والأمية والقابلية لممارسة العنف الدموي! ما الحل إذن لتتجنّب مصر مثل هذا الرعب القادم؟ الحل -ببساطة- في يد الشرفاء من رجال الشرطة، فرغم تفشي الفساد لا يمكن افتراض أن 100% من رجال الشرطة فاسدون مخالفون للقانون.. هناك شرفاء!! والكرة الآن في ملعبهم؛ لأنهم يجب أن يُدركِوا أن في الوضع الحالي تنطبق القاعدة -التي أكرهها كثيرًا- في أن الحَسنة تخصّ.. والسيئة تعُمّ.. الكرة في ملعبهم إذن...