ما إن تخلّص (أنور السادات) من ضغوط من أسماهم بمراكز القوى عليه، واستقرّ منفرداً على مقعد الحكم، حتى بدأ في تثبيت نفسه عليه، وبمنتهى القوة.. وكانت انطلاقة مدهشة بكل المقاييس.. انطلاقة، اعتمد فيها السادات على أمرين أساسيين، أوّلهما هدْم أسطورة عصر "ناصر"، وثانيهما كسب إعجاب واحترام وحب الشعب.. ومن هنا بدأت خطوات الانطلاقة.. ورحنا -كشباب- نتلّقى كل يوم صدمة جديدة.. السادات كشف النقاب -عمداً- عن مراقبات التليفونات، التي كانت تتم في عصر الرئيس "جمال"، وأعلن عن الاعتقالات غير القانونية والتعذيب البشع في السجون، وقام في موقف استعراض بضرب أوّل معول في أشهر معتقلات مصر، وحرق شرائط التسجيلات التليفونية علانية، وأعلن عن بدء عصر الحريات، واحترام حقوق الانسان، وهاجم في شراسة من أسماهم بمراكز القوى، وأعطى الضوء الأخضر لوسائل الإعلام؛ لتبرزهم في صورة وحوش آدمية، تنتهك طوال الوقت أعراض الناس وخصوصياتهم، وسمح بنشر تفاصيل التعذيب، الذي كان يحدث للإخوان المسلمين، وأعلن عن حرية الصحافة، كان الظاهر منها هو خطوة تحررية جبّارة، بعد سنوات من كبت الرأي ومعاقبة الفكر، أما الباطن منها فكان إطلاق الغضب الكامن في النفوس، وإطلاق الأقلام التي تسعى لمنافقته ونيل رضاه؛ لتهاجم عصر الزعيم جمال عبد الناصر، وتهدم أسطورته في القلوب.. حتى الأغنيات الوطنية التي كانت تتغنى باسم "ناصر"، لم تعد تذاع في أية وسيلة من وسائل الإعلام، ولم يعد من الممكن الحصول عليها من الأسواق، إلا بمجازفة كبيرة.. باختصار، كان السادات يسعى لهدم أسطورة "ناصر"، وبناء أسطورته الخاصة، التي تحمل اسمه.. وبالنسبة لنا كشباب، لم تكن دهاليز السياسة جزءاً من عالمنا، إلا أننا شعرنا بالارتباك، مع ذلك الانقلاب العنيف فيما نقرأه ونسمعه، ولم نعد ندري، أنحبّ عبد الناصر كزعيم، صنع حلم أمة، وأمل شعب، أم نكرهه؛ لأنه أقام السجون والمعتقلات، وعذّب الآلاف؟! ارتباكنا هذا لم يؤدِّ إلى كراهيتنا لعصر عبد الناصر، ولا حبنا للرئيس السادات، وإنما جعلنا نتجاوز السياسة كلها، ونلقي هذا خلف ظهورنا، ونمضي في حياتنا، بحثاً عن هواية تشغلنا، أو رياضة تمتصّ طاقتنا.. في تلك الآونة، سيطرت على معظم شباب مصر هواية جمع طوابع البريد التذكارية، وخاصة مع مجموعات الطوابع التي أصدرتها معظم الدول العربية، لتخليد ذكرى عبد الناصر، والتي كنا نتهافت على شرائها، ونتنافس فيمن يحصل على أكبر قدر منها.. أيامها انشغلت تماماً بهذه الهواية، ورحت أمارسها في شغف كبير، وأسعى إلى إتقانها -كالمعتاد- وسرعان ما امتلأت أدراجي بمجموعات من الطوابع، من مختلف البلدان، وبكل مستلزمات الهواية، من عدسات مكبّرة، وألبومات خاصة، وملاقط، وكتالوجات.. ثم فجأة، انتزعتني هواية أخرى، لم تكن تعرف طريقها إليّ من قبل.. فمع حصولي على الشهادة الإعدادية، كان أحد أصدقاء والدي قد أهداني آلة تصوير بسيطة، من طراز شائع في تلك الآونة، وبدأ معها اهتمامي بعالم التصوير، وابتكار زوايا جديدة للصور، ولكن ذلك الأمر لم يتوّغل كثيراً في أعماقي، حتى منتصف عامي الأوّل في المرحلة الثانوية، مع انتقال الأستاذ "مجدي السيد"، أستاذ التربية الفنية إلى مدرستي "الرافعي الثانوية" بطنطا.. كان الأستاذ "مجدي" يعشق التصوير الفوتوغرافي، ولديه خبرة واسعة في مضماره، فما إن تسلّم عمله حتى انتقى من المدرسة بدروماً قديماً مهملاً، وعمل على تنظيفه، وإعداده، وعثر فيه على أدوات إنتاج صور قديمة، من مكبّر ضوئي ومجفف للصور، وأحواض للأحماض، فقررّ إحياء الأمر، وأنشأ جماعة التصوير، ونجح في أن يجذب إليها عدداً لا بأس به من الطلاب.. ولسبب ما تعلّقت بالأستاذ "مجدي" بشدة؛ إذ كان رجلاً باسم الثغر دوماً، هادئ النفس، بعيد الرؤية، كما كان شديد الاهتمام بتعليمنا فنّ التصوير الفوتوغرافي وخفاياه، ولم يكن يبخل عليّ بأية معلومة في هذا الشأن.. وهكذا، وجدت نفسي غارقاً حتى أذنيّ في التصوير الفوتوغرافي، أقضي معظم وقت الفراغ معه، وأسعى جاهداً إجادته، حتى صار عشقاً لم يفارقني، حتى لحظة كتابة هذه السطور.. وتطوّرت علاقتي بالأستاذ "مجدي"، حتى لم يعد بالنسبة لي مجرّد أستاذ للتربية الفنية، ومعلماً لمادة التصوير الفوتوغرافي، بل صار أشبه بالمعلم، الذي أعود إليه، وأسترشد بكلماته، كلما احترت في أمر من الأمور، سواء في التصوير، أو في الشئون الحياتية العادية، ولم يبخل هو عليّ بالرأي والمشورة، وإن لم يقدمهما أبداً، إلا عندما كنت أطلبهما أنا.. وذات يوم أتى محافظ الغربية لحضور حفل في مدرستنا، وقررّنا في جماعة التصوير أن نقدم له مفاجأة، وهكذا قمنا بتصويره وهو يلقي خطبته في بداية الحفل، ثم هرعنا إلى حجرة التصوير المظلمة، فقمنا بقصّ ذلك الجزء من الفيلم، وتحميضه، وتجفيفه، ثم استخدمنا المكبّر؛ لتكبير صورة المحافظ، وأسرعنا باستخدام المجفّف لتجفيفها بعد تحميضها وإظهارها وتثبيتها، ثم وضعناها في برواز معدّ مسبقاً، وعدنا بها، لنسلمها هدية للمحافظ، قبل أن ينتهي الحفل.. وكانت مفاجأة للجميع.. للطلاب، والحضور، والمحافظ، ولمدير المدرسة نفسه، الذي لم يكن يعلم، أو يتوّقع ما ندبّر له.. وكان هذا نجاحاً مدهشاً لجماعة التصوير، اكتسبت بعده مكانة خاصة في المدرسة، ولم تعد الإدارة تضنّ عليها بالإمكانيات، واكتسب الأستاذ "مجدي"، صاحب الفكرة ومخططّها، خطوة كبيرة لدى مدير المدرسة آنذاك الفاضل "محمد توفيق شاهين".. أما أنا فقد رُحت أمارس هوايتَيْ الرسم والتصوير معاً، وأحاول أن أمزج بينهما، في عدة محاولات لم يُكتب لها النجاح، ولكنها لم تكن سيئة، عندما آراها الآن.. ومع اهتمامي الشديد بالرسم، وتفوّقي فيه إلى حد ما في ذلك الحين، كنت أتابع أعمال الفنانين الكبار، وكنت شديد الانبهار بالفنان "بيكار" على وجه الخصوص؛ لما لريشته من رشاقة وأناقة، ولما لألوانه من إبهار وجمال، وشغفت بالطبع بسيد الكاريكاتير في زمانه صلاح جاهين، الذي كنت تشعر مع كاريكاتيراته وأزجاله أنه يحيا وسط الناس، ويلتقط كلماته من أفواههم، ويغمسها في قلبه، فيمنحنا عذوبة ما بعدها عذوبة عبر قلمه.. وذات يوم فوجئت بخبر في الصحف عن القبض على مجموعة من البهائيين، وكان من بينهم الفنان "بيكار".. وكانت صدمة مزدوجة لي.. صدمة لأنهم ألقوا القبض على "بيكار"، وصدمة لأنه هناك من يسمّون بالبهائيين، ولم أكن، حتى تلك اللحظة، أعلم عنهم شيئاً.. ولكن تلك لم تكن كل الصدمات يومها.. لقد كنت أذكر الأمر في أسى للأستاذ "مجدي"، عندما واجهني بصدمة أعنف.. كان الأستاذ "مجدي السيد" أيضاً.. بهائياً!!!.. كانت صدمتي عنيفة للغاية؛ ليس لأنني أعلم شيئاً عن البهائية، ولكن لأنني فوجئت بأنني أجهل كل شيء تقريباً، عمّن أتخذته أستاذاً ومعلماً.. ولقد استغرقت صدمتي هذه يوماً واحداً، ثم لم يلبث الفضول الشديد أن انتابني لمعرفة ما هي البهائية، ومن هم البهائيون.. كانت الصحف أيامها تلعب بأسلوب التزييف نفسه، فتنسب إلى البهائيين ما لا يتفق مع عقل أو منطق، وما يعجز عن إقناع طفل رضيع، وما لا يمكن أن ينسب حتى لكفّار يعبدون الشيطان، أو أشد كفراً.. وكنت أحتاج إلى مصدر موثوق فيه؛ لمعرفة ما أريد من معلومات.. وهنا، قررّت اللجوء إلى أكثر شخص أثق فيه.. إلى الأستاذ "مجدي" نفسه.. وما زلت، حتى هذه اللحظة، أذكر دهشته الكبيرة عندما طلبت منه أن يشرح لي كل ما استغلق على تفكيري، بالنسبة للبهائية.. ولقد ترددّ الرجل طويلاً، وطلب مني أن أطرح هذه الفكرة عن رأسي، وحاول إقناعي بأن أبتعد عن الدخول في مثل هذه الأمور؛ لأن سني لا يسمح لي بخوض أية ارتباكات دينية.. ولكنني كنت مصرّاً.. واستسلم هو في النهاية.. وبدأ يشرح.. وبكل التفاصيل..
واقرأ أيضاً لمحات من حياتي (8) السادات ومراكز القوى لمحات من حياتي.. ومات عبد الناصر (7) لمحات من حياتي (6) لمحات من حياتي (5) لمحات من حياتي (4) لمحات من حياتي (3) لمحات من حياتي (2) لمحات من حياتي (1)