أفلام المخرج المعروف -والمعتوه- كوينتين تارنتينو دائمًا ما تحمل نزق الجنون الذي يحيط بعالم هذا الرجل والذي دائمًا ما يقدم جرعة نفسية عالية من الإبداع الذي يخالطه العمق بالهيستيريا، جاعلاً من أفلامه جرعة سينمائية مختلفة عن أي شخص آخر. نحن نتحدث عما هو أعمق من مجرد فيلم أكشن مع الكثير من الدماء، نحن نتحدث عن دمج ذلك مع قصة غريبة ذات تطورات غير محسوبة، وقدرات تمثيلية عالية تدمج التمثيل الجدي بتقليد تمثيل الستينات المعروف (والذي يحمل إحساسًا عاليًا بأن "الرجالة دول بيمثلوا أوي يعني") جاعلة مما يقدمه تارنتينو من أهم الأفلام عالميًا وأكثرها شهرة.
لا تستطيع أن تنسى فيلمه "Pulp Fiction" والذي جاء به إلى ساحة الشهرة، ولا نستطيع أن نتجاهل فيلمي "Kill Bill" الأول والثاني (وهو يجهز حاليًا لجزء ثالث، وإن كان هذا غريبًا فشخصية بيل قد ماتت بالفعل في نهاية الجزء الثاني)، أو فيلم Four Rooms الذي جمع فيه الغرابة بقوة القصة.
ولكن فيلم اليوم بالذات يختلف عن كل ما سبقه بشكل واحد أساسي، فهو يجمع كل نقاط القوة التي ظهرت في أفلامه السابقة، ويتخلى عن كل نقاط الضعف التي واجهته فيها، جاعلاً منه تحفة سينمائية تستحق المشاهدة.
والفيلم يبدأ كما يلي: تجاهل تلك الأعلام الحمراء يا صديقي، وحاول ألا تصطدم بذلك الرجل الفرنسي على دراجة حاملاً زجاجة نبيذ وخبز فرنسي (باجيت) رائع الرائحة، حاول ألا تنظر بعين حادة لأحد الجنود هناك فهو يستطيع أن يأتي بأجلك بلحظة، انظر إلى الأرض وتراجع بهدوء، فأنت في فرنساالمحتلة من قبل النازيين.
ابتعد عن العاصمة الباريسية وابحث عن الهدوء في قرية جانبية، قف بجانب ذلك الفلاح الفرنسي وساعده على قطع الخشب، تجاهل أصوات العسكر النازيين إذ يدخلون المنزل، اختبئ خلف الباب إذ يدخل الجنرال إلى المنزل، يجلس بجانب القروي ويطلب كوب حليب دافئا.
هو يسأله -بلطف- إن كان يعرف من هو، ليكتشف بأنه يعرف تلك المعلومة جيدًا، يعرف بأنه الكولونيل هانز لاندا، الشهير ب "صائد اليهود".
لقد جاء في مهمة واحدة، وهو سينفذها، سينظر إليك نظرات حانية حينًا، قاسية أحيانًا، يداعبك بنكتة في بعض الأحيان حاملاً غليونه الضخم قبل أن يوقف ضحكاتك بلمحة، ثم يجبرك على الاعتراف بكل هدوء ودون دماء: أجل، أنت وهو تعرفان أنك تخفي يهودًا تحت منزلك، أنت وهو تعرفان بأنها نهايتهم الآن.
يقف جنوده فوق الخشب، ويطلقون النار بلا رحمة قاضين على العائلة بأكملها عدا ابنة واحدة تستطيع الهرب، فتهرب.. تجري والدماء على وجهها وتهرب.. تهبط في الحقول الخضراء مبتعدة غير واعية، لا تصرخ فهي لم تعد تجيد الصراخ، هي فقط تجيد الهرب، وها هي تهرب.
أما على الطرف الأخر من المحيط، فالملازم الأول ألدو يجهز فريقه المؤلف من 8 جنود، ثمانية أشخاص كلهم يهود، وكلهم لهم هدف واحد في الحياة، قتل النازيين، تعذيبهم، تحطيم ملامحهم وصهر وجوههم.
كل واحد من هؤلاء الثمانية يجب عليه أن يأتي للملازم ألدو، والمعروف بالأباتشي تيمنًا ببعض الأصول الهندية فيه، بمائة فروة رأس نازية، والملازم ألدو ليس بشخص تستطيع أن تكسر أوامره.
هذا الفريق، والمعروف باسم "Inglourious Basterds" أو -كما ترجمها الفيلم للعربية "الجنود الملاعين"- سيذهب إلى فرنسا، وسينفذ مهمته. إضغط لمشاهدة الفيديو: Inglourious Basterds * كلام في الفن اضغط على الصورة لمشاهدة الجاليري: فيلم محشو بالسياسة: يحاول الفيلم أن يقدم جانبًا جديدًا تمامًا من سينما الهولوكوست، وإن كنت تتساءل عن ماهية سينما الهولوكوست هذه، فالجواب قادم إليك الآن:
"سينما الهولوكوست هي تلك السينما التي تهتم بحكاية ما حدث لليهود في ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية، وتتلو كل الأهوال التي واجههوها على يد النازيين، ابتداءًا من التعنت والتعذيب وصولاً إلى القتل في محارق الغاز. هذه السينما تعتبر من أهم أنواع السينما الموجودة حاليًا، وهناك أفلام كثيرة حازت على الأوسكار من هذه الفئة، منها طبعًا فيلم السنة الماضية "The Reader" الذي نالت عنه كايت وينسليت جائزة الأوسكار، ولا ننسى أهم تلك الأفلام Schindler's List الذي يعتبر من أهم أفلام التسعينيات، وفيلم Sophie's Choice والذي حازت بطلته ميرل ستريب على جائزة الأوسكار أيضًا. ببحث بسيط عن كلمة ال Holocaust ستجد بأن هناك 489 فيلمًا سينمائيًا قد تم صنعه عبر الأعوام تم التركيز فيها على أحداث الهولوكوست، وهو رقم مهول حقًا، لو وضعت بالاعتبار أن الأفلام المصرية التي صدرت عام 2008 لم تتجاوز ال 45 فيلمًا." وكنت -وأصدقائي حاضري الفيلم- مستغربين حقًا من أننا نستطيع مشاهدة فيلم اليوم هاهنا في مصر، فيلم مليء بالأفكار اليهودية وبالسيادة اليهودية، ناهيك طبعًا أننا شاهدنا قبل بدء الفيلم إعلان فيلم آخر هو Defiance، وهو فيلم يتحدث عن المعاناة اليهودية أيضًا، لدرجة أنني تساءلت: هل دخلت سينما إسرائيلية عن طريق الخطأ؟
لكن تارنتينو في هذا الفيلم بالذات لم يكن يريد أن يقدم المعتاد من سينما الهولوكوست، لا يوجد الكثير من السيدات النائحات ولا الصغار ذوي العيون الباكية الذين ينظرون إلى الكاميرا بحركة تثير الشفقة كأنهم جراء صغيرة، لا يوجد رجال نازييون مرعبون يحطمون رؤوس كل هؤلاء أو يجبرون أمًا على الاختيار بين صغارها، الوضع في هذا الفيلم مختلف تمامًا.
فهذا الفيلم يقدم ال anti-stereotype أو (ما ضد المعتاد)، حيث اليهود في هذا الفيلم يقومون بالقتل، يواجهون العنف بالعنف، يحطمون الجماجم بعصي البايسبول ويسلخون فروات الرأس عن الجنود النازيين، وفي نهاية الفيلم يتم إعادة تمثيل الهولوكوست بأكمله بشكل جديد تمامًا، فجميع كبار الجنود النازيين محجوزين داخل مكان واحد، ثم يتم إشعال النار بهم جميعًا في تقديم واضح للهولوكوست من ناحية جديدة. الفيلم يحاول أن يقدم عكس المعتاد، وأن يجذب الجمهور بشكل جديد تمامًا.
تقنية الفيلم: إخراج الفيلم كان ناجحًا كعادة تارنتينو، الكثير من المقاطع المجنونة وزوايا الكاميرا الحادة، والكثير من الحوارات التي لا تمت لما نحن به من صلة ولكن تضيف للموقف بشكل عام، وكالمعتاد من تارنتينو ترك الأخير دقته التاريخية خلف الباب وبدأ بكتابة سيناريو فيلمه مستخدمًا خياله فحسب، لهذا عليك أن تترك دقتك التاريخية خلف باب السينما بدورك أيضًا.
لا ننسى طبعًا أنه أصبح مجنونًا بأفلام الدرجة الثانية إياها، وأصبح يعشق أن يعطي أفلامه إحساسًا بأنها مصنوعة من أفلام ال B كما يدعونها هناك، وهو ما كان مسيطرًا على فيلمه السابق Grindhouse.
التمثيل كان رائعًا من ناحية كل من براد بيت وكريستوفر فالتز، كلاهما قدم شخصيات جديدة تمامًا عليهما ونجح في انتزاع البسمة والرعب في الوقت نفسه من قلوب المشاهدين.
الفيلم بشكل عام كان ممتازًا بكل تقطيعاته وبنجاحه في نقل أحداثه إليك، ولكن ابتلاعه تاريخيًا وسياسيًا سيكون صعبًا حقًا، سيكون صعبًا إلى أقصى درجة.