ليس من السهل أن نجد عاما يمر علي السينما العالمية دون أن تقوم شركات الإنتاج بعمل فيلم تاريخي تكون الحرب عنصرا أساسيا فيه, أي حرب! غير أنه من المؤكد أن الأفلام التي تناولت الحرب العالمية الثانية تعد من أكثر الأفلام التي أنتجت عبر تاريخ السينما. إنها أفلام تحتاج إلي تجهيزات كبيرة, ديكورات وملابس وأسلحة خفيفة أو ثقيلة, أو سيارات وطائرات كلها يجب أن تكون من الطرز المستخدمة في سنوات الحرب الست, غير أنه في العادة ما تقدم سينما الولاياتالمتحدة رصدا للفترة الزمنية التي أنهت الحرب بعد أن شاركت فيها الولاياتالمتحدة في السنوات الأخيرة, التي هي فترة كانت قوات الحلفاء قد واجهت العديد من الصعوبات في مجابهة جيوش النازي التي اجتاحت معظم أوروبا وشمال إفريقيا. تلك السنوات الأخيرة من الحرب كانت محورا رئيسيا في الأفلام التي ارتكزت فقط علي الانتصارات التي قامت بها قوات الحلفاء, ومنها الولاياتالمتحدة, علي جميع الجبهات في أوروبا وشمال إفريقيا وآسيا, والواقع أن تلك الأفلام بدأت هوليوود في صناعتها في أثناء وفور الانتهاء من الحرب, بمعني أن هناك أفلاما عن الحرب أنتجت بعد عامين من بدء الحرب مثل فيلم ثلاثين ثانية فوق طوكيو الذي أنتج في عام1945 كرد معنوي علي الهجمة اليابانية علي بيرل هاربر التي صدمت المجتمع الأمريكي في ديسمبر من عام1941, الفيلم أخرجه ميرفن ليروي, وكان بطولة عدد من نجوم السينما الهوليوودية في الأربعينيات مثل فان جونسون, وروبرت ميتشوم, وتيم ميردوك. معظم الأفلام التي رصدت الحرب كانت لها أهدافا دعائية تمجد بطولة المجند الأمريكي الذي قاوم النازي, أو الذي كان عنصرا رئيسيا في إنحاء الحرب. غير أن النهاية الشخصية لهتلر لم تكن علي الإطلاق تهم تلك الأفلام الضخمة, إما دراما العمل العسكري هي كانت الهدف الأساسي في تلك الأفلام, إلا في الآونة الأخيرة, فقد اهتمت السينما العالمية بكيفية نهاية الرايخ الثالث وديكتاتوره. إن القصص المتعارف عليها تاريخيا أن هتلر ورفيقته انتحرا في مخبأهما في برلين بعد أن علما أن جيوش ألمانيا النازية توالت عليها الهزائم الواحدة تلو الأخري, ولعل الفيلم الألمانيDownfall الذي أخرجه أوليفر هيرشبيجل في عام2004 كان أهم فيلم رصد تلك التفاصيل داخل مخبأ القادة في برلين, والساعات القليلة المتبقية في النظام النازي, وربما واجه الفيلم العديد من الانتقادات عن عند ترشحه لجائزة أوسكار أحسن فيلم أجنبي بسبب أنه لا يرصد غير إحساس الهزيمة وتجهيزات الانتحار التي يقوم بها قادة الرايخ, بمن فيهم زوجة جوبلز التي كانت تطعم أطفالها السيانيد بيدها, ومن المؤكد أن هذا الفيلم يعطي إحساسا قاتما يقترب من التعاطف مع هؤلاء الأطفال علي الرغم من أن جرائم الحرب التي قام بها أهاليهم. أما فيلم المخرج كوانتين تارنتينوIngloriousBasterds فهو محاولة من هذا المخرج المتميز لأن يقدم رؤية قد تكون مغايرة تماما للحقيقة, لكنها تصب في الحالة العامة للحرب, وهي توحش البشر علي جانبي المعارك. الرؤية المغايرة للحقيقة هي أن هتلر وقادة الرايخ لم ينتحروا لكنهم قتلوا في عملية خاصة سميتOperationKino بمعني عملية السينما كينو بالألمانية تعني سينما. وكما في أفلامه السابقة مثل بالب فيكشن يقدم تارنتينو قصته علي مقاطع كل مقطع يحتوي علي قصته التي تكمل مع التي تليها شكلا كاملا من الحكي, غير أن الرابط الأساسي في الفيلم هو الانتقام الذي يقوم به اليهود ضد جنود النازي. فالمقطع الأول الذي تدور أحداثه في عام1942 في ريف فرنسا يقدم لنا فلاحا فرنسيا أمام بيته عندما ذهبت إليه وحدة من الأمن الألماني بقيادة الكولونيل هانز لندا( يقوم بالدور الممثل النمساوي كريستوف ولتز), أهم العناصر الأساسية في هذا المقطع هو الحوار الذي يدور بين الضابط النازل والرجل الفرنسي البسيط, ولعل الحوار في الفيلم ككل هو العنصر الأهم علي الإطلاق. فالحوار بدا ودودا في بداية الفيلم بعد أن جلس هذا الضابط طالبا كوبا من الحليب من إحدي بنات هذه الرجل الفرنسي الفقير, وبنفس الود يرفع الضابط قلمه وأوراقه ليسأل عن عائلة يهودية تعيش في نطاق تلك القرية وكأنه يقوم بعمل روتيني بحت, بعدها ينتقل الحوار بهدوء من الفرنسية إلي الإنجليزية هنا تتغير نبرة الضابط قليلا نحو الحسم, كما أن الوجه الودود يتحول قليلا نحو الجدية. إن الهدوء لايزال هو العنصر الفاعل بالإضافة إلي التهديد. المخرج بعد أكثر من10 دقائق من الحوار ينتقل ليجعل المشاهد يري بعينه أن الفرنسي يخفي العائلة اليهودية أسفل البيت. الممثل الذي قام بدور الفرنسي بيير( دنيس مانوشيه) رغم أن دوره لا يتجاوز المشهدين فإن انتقال التعبير لديه من القوة والثقة المصطنعة إلي الانهيار الهادئ والبكاء يجعل المشاهد يتعاطف معه علي الرغم من وشايته للألمان. الممثل كريستوف ولتز كان بارعا في العديد من المشاهد, ومنذ البداية لديه القدرة الرائعة لأن ينقل تعبيراته من مرحلة إلي أخري حسبما يستدعي الحوار, ومما لاشك فيه أنه يستحق الجائزتين اللتين حصل عليهما, وهما أفضل ممثل في مهرجان كان العام الماضي, وأوسكار أحسن ممثل مساعد منذ عدة أيام. يعد دور الضابط الذي قام به كريستوف ولتز هو الدور الرئيسي في الفيلم وليس دورا مساعدا علي الرغم من حصوله علي الجائزة, ولا يبدو دور الضابط الأمريكي ألدو رين( براد بيت) بنفس قوة دور الضابط الألماني في نص السيناريو. فالضابط الأمريكي هو رجل يجند المتطوعين من اليهود بهدف عمليات قنص للعساكر والضباط النازيين وقتلهم والتمثيل بجثثهم, وكانت هواية تلك المجموعة هي قطع فروة رأس أي نازي والاحتفاظ بها. وبعد هذين المقطعين ينتقل الفيلم في المقطع الثالث إلي حيث تعيش شوزانا( ميليني لورنت) الفتاة الوحيدة التي نجت من مقتل عائلتها اليهودية في المقطع الأول حيث هي تدير سينما, وهي تكن خوفا وحقدا ورغبة في الانتقام من النازيين تماما مثل مجموعة الضابط ألدو, غير أن الظروف لا تسمح لها بذلك إلا عندما تتسني لها فرصة استضافة فيلم تسجيلي يمجد الألمان يعرض في هذه السينما, ويحضره العديد من قادة الرايخ, وبينهم هتلر وجوبلز وزير الدعاية, هنا تقرر الفتاة وصديقها مرسيل الإفريقي الفرنسي أن يحرقا السينما علي قادة الرايخ الثالث في عملية انتحارية كاملة بواسطة السلاح الأخطر, وهو شريط الفيلم الذي يحتوي علي النيترات, وهي مادة سريعة الاشتعال. العنف في حد ذاته لا يمثل شيئا ينتقد عليه الفيلم علي الإطلاق, فمن المعروف أن أفلام تارنتينو الأخيرة تحتوي علي العديد من مشاهد العنف مثلPulpfiction,KillBill,Deathproof, وهذه الأفلام الثلاثة اتسمت بالعديد من مشاهد الدم والقتل المبالغ فيه, التي أحيانا من الممكن أن تتجاوز مثيلتها في فيلمه الجديد, غير أن الأزمة الحقيقية في الفيلم تكمن في شيء واحد وهو بناء بعض الشخصيات, فإننا نجد أن ألدو, وهو زعيم مجموعة اليهود المسماة بالأوغاد والمتخصصة في قتل وتشويه الجنود النازيين الذي أصاب هتلر وقيادته بالصداع بعد أن شكل لهم جماعة عنف تنهش شيئا فشيئا في قواتهم, فهذا الضابط الأمريكي بدا شديد الذكاء في خططه وقدراته, غير أنه بدا وهو يذهب إلي حفل السينما هو وزميليه بأنه شديد الغباء وأن المصادفة وحدها هي التي أنتجتOperationKino. لا يبدو الفيلم براقا أو لامعا إلا سبب شخصية الكولونيل هانز ليندا أو الذي أطلق عليه في الفيلم صائد اليهود, غير أنه أيضا لا يسلم من تحول غير مبرر في بناء الشخصية, فبعد أن كان صائدا لليهود وقاتلا لهم كذلك نجد عنفه ووحشيته في المشهد الذي يكتشف فيه أن النجمة السينمائية الألمانية بريدجيت عميلة لمخابرات الحلفاء, فيقوم بخنقها بعنف وغل بيديه لأنه شعر بخيانتها, إلا أنه في المشهد التالي لذلك وبمنتهي المنطق يقرر أن يصبح هو عميلا لينهي الحرب لمصلحة الحلفاء رافضا أن يبلغ الأمن عن وجود متفجرات في قاعة العرض. هذا التحول لا يبدو سلسا في السيناريو رغم أن الحوار بينه وبين ألدو رين بدا منطقيا, ففي الواقع لا يستطيع الحوار فقط أن يغير من بناء الدراما, وفي النهاية لا أتصور أن الفيلم من أعمال تارنتينو المتميزة هو فقط عمل يعتمد علي الجرأة في تناول موضوع شديد الحساسية وبدون أدني تعاطف, فهو يقدم عنفا من الجانبين النازيين واليهود المسلحين, وأتصور أن الأوغاد تعني من هم في الجانبين وليس فقط جماعة الضابط الأمريكي ذي اللكنة الجنوبية.