كتب: سيد حامد سُئل أحد الأبطال يوماً عن سر قدرته على مواجهة الصعاب؛ فسكت قليلاً, ثم قال بصوت هادئ, لكنه يفيض قوة: انظر إلى الشخص الذي يكسر الأحجار ليشكل منها لَبِنَات يشيد بها مباني شاهقة وقصوراً فارهة, إنه يظل يضرب الصخر بمطرقته, ربما مائة مرة, دون أن يبدو فيها أي أثر يبشّر بكسر؛ لكنه يواصل جهده، وفجأة، وربما في المرة الواحدة بعد المائة ينشطر الصخر؛ ولكن ليس من الضروري أن تكون الضربة الأخيرة هي التي حققت النتيجة؛ بل المائة التي سبقتها! لقد وضع صاحبنا أيدينا على سر النجاح والتفوق, وهو احتمال الشدائد في سبيل الفوز, والأهم من ذلك التروّي وعدم الاستعجال في الحصول على ثمرة التعب؛ فالإنجاز لا يأتي بالهبات السريعة؛ وإنما يحتاج إلى الأعمال المتراكمة والإيجابية, والإرهاق الذي ربما نال من أجسادنا لا ينبغي أن يتعداها إلى أرواحنا؛ فتظل بمنأى عن اليأس, والاستعجال في قطف الثمرة. فهذا الفلاح, يضع البذرة برفق في الأرض, ويظل يتعهدها بالماء والسماد, ويزيل من حولها الحشائش الضارة.. وفي صمت تعدّ البذرة برعمها؛ حتى إذا حان الأوان, نفض عن نفسه التراب, واحتضن دفء الشمس.. وفي بداية عهده بالحياة يكون ضعيفاً, قد تضيع روحه بيد طفل غرير؛ لكنه يظل يقوي نفسه, ويكتسب من أسباب القوة والتمكين ما يعينه في قادم الأيام على أن يكون شجرة باسقة تتحدى العواطف والرياح الثائرة. سر النجاح أخي الحبيب ربما كان في الصبر, وتحمل مشاق الإعداد الطويل, وصعوبات البدايات الأولى, وقتل الاستعجال. الإمام البخاري ينقل لنا في كتابه ذلك الحديث الهام؛ فقد ذهب خباب بن الأرتّ مع رفاقه المضطهدين إلى رسول الله، يطلبون منه أن يدعو الله فينصرهم على قريش، التي تتففن في إنزال أشد ألوان العذاب بهم. فوجئ خباب بالحبيب صلى الله عليه وسلم وقد احمرّ وجهه من الغضب يقول: "قد كان من قبلكم يُؤخذ منهم الرجل, فيُحفر له في الأرض, ثم يُجاء بالمنشار, فيُجعل فوق رأسه؛ ما يصرفه ذلك عن دينه.. وليُتِمَنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه"، ثم حذّره من فخ السقوط والفشل: "ولكنكم قوم تستعجلون". فالنفس الإنسانية قد تطمح أحياناً إلى رؤية ثمار ما تُقدّمه سريعاً, وتغفل أن الأمر ربما يحتاج في بعض الأحايين إلى قليل أو كثير من الصبر. والقارئ للسيرة النبوية حقاً عليه أن يتوقف عند حادثة حصار المسلمين في شعب بني هاشم! هذا الحصار استطال أمده ثلاث سنوات كاملة, فرضت فيه قريش المقاطعة الكاملة على المسلمين ومن تعاطف معهم, لا بيع, لا شراء؛ حتى بلغ الجهد من المسلمين, وأكلوا أوراق الأشجار. في بداية أمر الحصار كان من الطبيعي أن يستعجل المسلمون الخروج من هذا المأزق, وأن تمرّ تلك الأيام الكالحة سريعاً؛ فطالما وعدهم الله بالنصر والتمكين؛ بيْد أن الأمر استمرّ أكثر من ألف يوم وليلة, كان فيها الوحي ينزل فلا يطالب المسلمين إلا باليقين والثبات. ثلاث سنوات كاملة عاشها المسلمون محاصرون بين حرارة الجبال وشدة الجوع, لم يدخل خلالها دين الإسلام إلا القليل؛ حتى ظنّ البعض أن الدعوة الإسلامية قد تجمدت تماماً.. حتى إن كتب السيرة لا تجد ما تكتبه في أحداث تلك السنوات, ولا تتعدي كلماتها بضعة صفحات قليلة! المدهش أن ذلك الحصار لم ينتهِ بحدّث جلل؛ إنما هي النخوة ثارت في نفوس بعض الرجال الشرفاء, وكانوا للعجب على دين الكفر؛ فقالوا: كيف يطيب لنا طعام وشراب وإخواننا محاصرون في الشعب يعانون الشمس والجوع؟! في تصوري، أن تلك الفترة ربما كانت لإعداد المسلمين لما هو قادم؛ فهؤلاء الذين صمدوا وتحمّلوا الجوع والعطش والتنكر من بني البشر, كانوا هم من صَمَد مع النبي حينما هاجر إلى المدينة لينشئ دولة الإسلام, وتحدوا معه قوانين البشر في كل المعارك التي خاضوها ضد قوى الشرك والوثنية من أجل نشر الدين. يقول الشيخ محمد الغزالي عن فترة الحصار: "وقد أفاد الصحابة من ذلك عفة ونقاء وإخلاصاً لا يُعرف له في التاريخ نظير؛ فلما تعثّرت تيجان الملوك بأقدامهم, واستسلمت الأقطار المكتظة بالخير لجيوشهم, كانت دوافع العقيدة وأهدافها هي التي تشغل بالهم قبل الفتح وبعده؛ فلم يكترثوا بذهب أو فضة". فهذا قدَر أصحاب الرسالات العظيمة أن يواجهوا الابتلاءات والمحن والصعاب, وتصهرهم التجارب, وترقق نفوسهم الملامات.
أتدري قارئي الحبيب، لم نال الكاتب الإنجليزي تشارلز ديكنز تلك المكانة الرفيعة في الأدب العالمي؟ ربما لأن بدايته كانت شاقة, تحمّل فيها الصعاب, معداً نفسه ليكون ذا شأن في مستقبل أيامه. فقد أفلس والده؛ فكان عليه أي يلتحق بأي عمل يساعد به أسرته الفقيرة؛ فعمل في مصنع صغير لتعبئة زجاجات الصبغة, كان يعمل فيه من شروق الشمس إلى غروبها وهو يرى الفئران تعيش معه وتمرح حوله، كل ذلك مقابل شلن واحد.. وفي المساء كان عليه أن يقطع ماشيا على قدميه مسافة طويلة حتى يصل إلى بيت أسرته. تلك الفترة القاسية خلقت من ديكنز ذلك الكاتب المبدع الذي كتب ساخطاً على مساوئ المجتمع الذي عاش فيه؛ فراح يعمل لإصلاحه.. ومن بعده كان عملاق الأدب برنارد شو -الذي قضى طفولة قاسية- كما عانى الفقر في شبابه, وتأخر عنه النجاح حتى اقترب من سن الأربعين.. فتعلم أخي الحبيب فن النجاح, وتيقن أن الفوز يأتي بالصبر, ومهما استطالت الأيام فاتخذها وقوداً, يُكسبك مزيداً من التجارب, ويدفعك دائماً للأمام.