وصلتنى هذه الرسالة المؤثرة من د. سهير الزينى، أستاذ الأدب الإنجليزى سابقا. تقول الرسالة: «تصادف أننى أعدت قراءة رواية (قصة مدينتين) للروائى الإنجليزى الأشهر (تشارلز ديكنز)، والتى تتحدث عن أحداث - وفظائع – الثورة الفرنسية، وقد أحببت أن أكتب لك انطباعاتى. كنتُ - ومازلت - أعتبر هذه الرواية رائعة الروائع ل«ديكنز»، كونه نسجها دون مثال سابق، أو قواعد محددة لفن القصص الروائى. مازلت منبهرة حقا ببنائه الفنى المحكم، والحبكة الفنية المتكاملة. لكننى - وأنا فى سن السبعين - أقرؤها الآن بشكل مختلف. فى هذه السن القريبة من نهاية رحلة العمر، أجدنى أكثر تأثرا بالمضمون عن القالب، بالمغزى عن الشكل، بالمعنى عن الجمال. لاشك أننا فى حاجة إلى إشباع الحس الجمالى الفطرى الكامن فى نفس كل إنسان سوىّ، ولكننا فى حاجة أمسّ إلى إيجاد حياة كريمة تليق بالإنسان، الذى كرمه الله سبحانه وتعالى، وفضّله على سائر المخلوقات. ولقد انهمرت دموعى وأنا أقرأ الوصف الدقيق المُفصّل، الذى قدمه (ديكنز) لحالة الفساد المتفشى والقهر والظلم والتعذيب والفقر والجوع والحرمان والوهن والذل والحزن والاكتئاب، التى كانت تعانى منها الجماهير الغفيرة من الشعب الفرنسى المغلوب على أمره قبيل الثورة الفرنسية المرعبة، والتى كانت بالضرورة مؤدية إليها. ارتجف قلبى ذعرا وكأننى أقرأ عن حالة الفساد المستشرى فى بلدى الحبيب الآن، والمظالم التى تحيط بنا فى كل مكان. خصوصا حينما راح (ديكنز) يصور بأسلوبه الساخر اللاذع المؤثر الحياة المترفة لقلة قليلة من البشر المحظوظين، الذين لا يحملون همّا ولا يعرفون حزنا ولا يبذلون جهدا، ينهبون أرزاق الكادحين ويسحقونهم تحت الأقدام. ثم يسترسل (ديكنز) ليصف ما حدث فى الاتجاه العكسى من فظائع الثورة الفرنسية، التى خاضت فى دماء المذنبين والأبرياء على حد سواء. ظلمات بعضها فوق بعض، وفتن يلحق أولها بآخرها. ثم يرتفع صوت (ديكنز) مجلجلا ومحذرا: «يا أيها الإنسان كما تدين تُدان. ابذر الظلم تحصد الظلمات. ابذر الفساد تحصد الانحراف. ابذر الحقد والكراهية تحصد الحقد والكراهية.. هذه ليست قصة بلد ما فى زمن ما، هذه قصة تتكرر فى كل زمان ومكان. فالفساد والظلم - بالضرورة - يولّدان وحوشاً آدمية، لا تعرف الحب ولا الشفقة ولا الرحمة، وحوشاً نُزعت منها الفطرة السوية، التى فطر الله الناس عليها، وحوشا لو أُطلق لها العنان فلا تستطيع أن تكبح جماحها أو تتقى شرها». كلى أمل فى أن يفطن عقلاء الوطن إلى المخاطر التى تكتنفنا الآن، والظروف الحالية المتدهورة، التى تُهيئ لانفلات اجتماعى خطير. بقلب الأم- التى لا ترجو شيئا غير سلامة أبنائها- أدعو الله من كل قلبى أن يلهمهم الحكمة ليجنّبونا أهوالا لا طاقة لنا بها، إذا انطلقت الوحوش الآدمية من عقالها، وخرجت لتنتقم. حفظ الله مصر وطننا الغالى من كل سوء».