محطة مترو أنفاق المرج الجديدة.. أستاذ "رمضان صابر أبو العزائم"، مدفوعاً وسط موجة من اللحم البشري تزحف على الرصيف للوصول إلى القطار، فجأة يجد نفسه مقذوفاً داخل العربة ويتفادى أن يلبس وجهه في الباب المقابل في آخر لحظة، يقف محشوراً وسط الزحام، تنبت حبّات العرق من صلعته العريضة وتتصبب فوق جبينه، تعلو وجهه العابس علامات الغضب. في استماتة يحاول أن "يملص" إحدى يديه ليخرج منديله الفضفاض الذي كان أبيض فيما سبق، ويجفف شلّالات عرقه، ثم يخرج بيده الأخرى مصحفاً قديماً مهترئاً ليبدأ القراءة في صفحاته كما اعتاد خلال رحلته اليومية والتي تنتهي بوصوله لمقر عمله، فيلوي دون قصد رأس أحد الواقفين بجواره، والذي انحشر رأسه تحت إبط الأستاذ "رمضان"، فيصيح به قائلاً: ما تحاسب شوية يا عم الشيخ، هي حبكت يعني؟ مش كفاية الحر والزحمة والغُلْب اللي إحنا فيهم.. اللهم إني صااائم. قراءة القرآن سباق ولّا تدبّر كل رمضان بنتسابق مع بعض على القراءة في المصحف، ومين أكتر واحد فينا هيختم القرآن وأكتر من مرة، وعشان كده بنمسك المصاحف في المواصلات وفي المترو وحتى في الشغل كمان. طيب في المواصلات والمترو.. وسط الحر والزحمة وروائح العرق، بنقرأ عشان الثواب في الشهر الكريم، كل حرف بحسنة، والحسنة بعشر أمثالها.. هي قراءة القرآن اقتصرت على شهر رمضان وبس؟! طول السنة سايبين المصاحف وسط التراب، هي الشهور التانية ما فيهاش أي ثواب؟ معنى كده إن علاقتنا وتعاملنا مع ربنا أصبح بالكم مش بالكيف؟! يعني نقرأ بأكبر سرعة عشان نختم القرآن كذا مرة من غير تدبر في آياته؟! تعالوا كده نفكّر مع بعض يا ترى ربنا سبحانه وتعالى أمرنا نقرأ كتابه الكريم في رمضان بس ولا إيه، ولما نقرأ -مجرد نقرأ- زي ما بنقرأ الجرايد أو أي كتاب بنتسلى بيه.. أليس هو القائل عز وجلّ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة ص: 29]. تفتكر ربنا هيجزيك عن عبادتك وأنت بتعطل مصالح الناس؟ يلّا تعالوا نشوف الأستاذ "رمضان" وصل لحد فين.. وصل الأستاذ "رمضان" متأخراً -كعادته في أيام رمضان وغير أيام رمضان- ممسكاً بمصحفه يلقي نظرة تجاه مكتبه؛ ليجد عدداً كبيراً من العملاء واقفين في انتظاره، يشيح بوجهه وينهي الصفحة التي كان يقرأها قبل أن يتقدم إلى مكتبه.. وبمجرد رؤيته يردد بعض العملاء الهتافات الساخرة تعبيراً عن غضبهم: - "رمضان" جانا أهو وفرحنا به.. ههههه!. - هل هلالك.. يا أستاذ "رمضان"!. - مرحب مراحب.. يا أستاذ "رمضان"!. الأستاذ "رمضان" في سرّه: ربنا يسامحك يا أبويا.. ملتفتا لجموع الواقفين بنفس الوجه العابس، تتلألأ فوق جبينه حبات العرق: - جرى إييييييييه يا إخواننا.. كل اللي عنده كلمة يلمّها بقى ع الصبح، نهاركم فلّ استهدوا كده بالله وصلوا ع النبي.. وبعدين على إيه السربعة دي إن شاء الله، كل واحد هتنقضي مصلحته ويروح لحال سبيله.. خلاص ما فيش شوية صبر... اللهم إني صائم. يجلس على مكتبه يبحث عن سلسلة مفاتيحه ليخرج منها مفتاح دفتر خدمة العملاء، وينهمك في إنهاء بعض العمل المتراكم؛ ليتخلص من بعض طابور العملاء أمام مكتبه، فجأة يرنّ هاتفه المحمول وتظهر على شاشته: - ماما (المدام يعني)!. - الأستاذ "رمضان" تاركاً الطابور أمام مكتبه، دون اكتراث متمتماً في سره: خير اللهم اجعله خير.. استر يا اللي بتستر. يصيح بعض الواقفين: - على فييين يا أستاذ "رمضان"؟ يضغط أزرار الهاتف المباشر -المخصص للعمل- يطلب رقم موبايل زوجته بسرعة، فيأتي من على الجانب الآخر صوتها، ويدور بينهما حديث يستغرق عدة دقائق حول الفطار وطلبات ما بعد الفطار من كنافة وقطايف وفاكهة والذي منه... وتعيش وتجيب لنا... وكله من خيرك عشان العيال تاااكل... رمضان كريم وكل سنة وإنت طيب يا أخويا...... يقفل معها الأستاذ "رمضان"، وما يلبث أن يعمل قليلاً، ثم ينظر في ساعته ليكتشف أنه قد تبقى وقت قليل قبل صلاة الظهر.. فيتوجّه للوضوء، تمر ثلث ساعة وما زال العملاء بانتظاره أمام المكتب. يعود مع الأذان وهو يجفّف وجهه ويديه بمنديله وينادي على زملائه؛ للتجمع من أجل الصلاة، في حين تستقبله اعتراضات وتأففات من الواقفين، فيردّ معنّفاً: - إيه بلاش نصلي؟ ولا نأخر الصلاة كمان في رمضان؟ هتكفروا؟؟ اللهم إني صائم!!. هي قراءة القرآن اقتصرت على شهر رمضان وبس؟ هو الشغل هيخلص ولا هيطير؟! الشغل مش هيخلص ولا هيطير يا إخواننا مش كده، حتى لو كان الوقت في رمضان قصير وساعات العمل قليلة، وبعدين ده شهر بييجي من السنة للسنة.. وبعدين أشتغل إزاي وأنا صايم.. ولا كوباية شاي ولا سيجارة.. إزاي بس؟!! أنا يا دوبك باقدر أصوم واقرأ لي شوية في المصحف كل يوم في المواصلات وكمان شوية في الشغل، وبعد الفطار أخطف ركعتين العشا والتراويح، أصل الشيخ فلان بيرحم الناس ومش بيطوّل، يا دوبك الفاتحة وسورة قصيرة.. قلبه كبير وبيرحم الأطفال والكبار اللي واقفين وراه.. ربنا يبارك له. إيه المشكلة يعني لما أتابع مسلسلات رمضان كل يوم؟ حتى لو نمت متأخر قبل السحور؟ ما أنا هاتسحّر وأصلي الفجر.. وأفضل صاحي لحد الصبح عشان باتابع البرامج الدينية اللي بتيجي بعد الفجر.. الدنيا مش هتنهدّ لو مرة راحت عليّ نومة، ما يجراش حاجة لو اتأخرت شوية الصبح يعني، ولا غَفّلِت وأنا قاعد، ما إحنا في رمضان والدنيا صيام بقى. يعني إيه.. رمضان والصيام مبررات لتأخير الشغل أو تأجيله؟ وقراءة القرآن وقت العمل.. هل ربنا هيجزيك عنها وأنت بتعطل مصالح الناس؟ روى الطبراني حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ عَمَلاً، فَحَجَبَ بَابَهُ عَنْ ذِي حَاجَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ، حَجَبَهُ اللَّهُ أَنْ يَلِجَ بَابَ الْجَنَّةِ". مش ممكن بدل ما نضيّع وقتنا في الفرجة على المسلسلات والبرامج التافهة والمكررة، نقضي الوقت ده في قراءة القرآن بشيء من التدبر، وندرس تفسيره المبسط لنعمل بما جاء فيه. بنصلي التراويح عشان الثواب والعبادة ولا عشان بقت كل سنة عادة؟! رمضان مش عد صفحات ولا خطف ركعات داخل المسجد أستاذ "رمضان" يدفع أحدهم بيده، ويربّت على كتف آخر.. فيفسح له لينطلق بين الصفوف متخطياً الرؤوس، بعصبية مفرطة ينهر ذلك الشاب ويلكزه في ظهره بعنف؛ لأنه تجرأ وجلس في مكانه، فيقوم الشاب بكل احترام من مكانه بعد أن جاء مبكراً إلى المسجد، حتى يجلس أستاذ "رمضان"في مكانه المفضّل الذي اعتاد الجلوس فيه كل يوم أسفل المروحة، مستنداً بظهره إلى العمود في مقدّمة المسجد، وذلك ليصلي في الصف الأول خلف الإمام. وهو كده ينفع؟ هو الأستاذ "رمضان" رايح المسجد يصلي ولا يتخانق عشان يقف في الأول؟ تفتكروا كده هياخد الثواب لو وقف في الصف الأول رغم إنه جاي متأخر، ولا لو كان وقف في أي مكان وساب المكان "بتاعه" لحد تاني؟ أنتم شايفين إيه؟ أستاذ "رمضان" معاه حق ولا إيه؟
نقرأ القرآن بسرعة وفي أي مكان ولا نقرأه مرة واحد بتدبر وإمعان؟
يا ترى بتقضّوا وقت الشغل نوم ولا بتهتموا بمصالح المواطن المظلوم؟
بتصلوا التراويح عشان ثواب وعبادة ولا عشان بقت كل سنة عادة؟!