تحت عنوان "سعد مرتضى.. مهمتي في إسرائيل.. مذكرات أول سفير مصري في تل أبيب" يروي الكتاب قصة تجربة فريدة ومثيرة عاشها مؤلفه السفير "سعد مرتضى" في إسرائيل، عندما أوفدته مصر كأول مبعوث للسلام الذي وقّعه الرئيس الراحل أنور السادات في واشنطن في 26 مارس 1979 مع رئيس وزراء إسرائيل الأسبق مناحم بيجن، ووقّعه معهما الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر، بعد سنوات عديدة من العداء والحروب بين مصر والدول العربية من ناحية، وإسرائيل من ناحية أخرى. وهذا الكتاب هو واحد من الكتب القليلة التي تُقدّم لنا رؤية دبلوماسية وموضوعية للحياة في إسرائيل؛ فمعظم الكتب العربية والدراسات التي اهتمت بإسرائيل أو بالصراع العربي الإسرائيلي، كانت تركّز في المقام الأول على انتقاد الدولة العبرية، والتقليل من شأنها، وتحاول إبراز كل الدلائل والحقائق التي تُؤكّد هذه الصورة السلبية عن الشعب الإسرائيلي وجيشه وحكوماته المتعاقبة وهي كثيرة كما نعرف، ولذلك أتوقّع أن تشعر مثلي في بعض أجزاء هذا الكتاب بدبلوماسية السفير "سعد مرتضى" المفرطة وتحيّزه الشديد لفكرة السلام ولو كان بارداً في مقابل الحرب، ومحاولاته المتكررة لمحو النظرة السلبية إلى شعب إسرائيل الذي عاشره لفترة تزيد على عامين، ولمس منه الكرم وحسن الضيافة والرغبة في السلام والصلح لدرجة تختفي معها السلبيات تقريباً، ولكن بغضّ النظر عن الطريقة التي نرى بها إسرائيل والتطبيع معها، يبقى مهماً أن نعرف المزيد عنها، ولو من باب أن نعرف عدونا ونأمن مكره، ومن المفيد أيضاً أن نطّلع على الآراء المختلفة حول أي موضوع خلافي مثل التطبيع والصراع العربي الإسرائيلي حتى نصل إلى قناعتنا ورؤيتنا الخاصة حول الأمر. يقول المؤلف في مقدّمة كتابه: "لقد أتاحت لي هذه المهمة أن أرى إسرائيل من الداخل، وأن ألتقي بالمسئولين فيها، وأن أعرف الكثير من أهلها في غير نطاق العمل الرسمي، كما تجوّلت في مناطق عديدة وتعرّفت على بعض نواحي الحياة فيها". ولذلك فهو يحاول في هذا الكتاب نقل الانطباعات والمشاعر التي أحسّ بها أثناء هذه الفترة إلى القارئ المصري والعربي، وأيضاً توضيح صورة المهمة التي أدّاها، وبهذا قد يكون في قراءة تجربته محاولة لإزالة الغموض الذي يحيط بحقيقة الدولة الإسرائيلية. ويتكوّن الكتاب من 11 فصلاً، تبدأ بردّ على سؤال طالما واجهه المؤلف، وهو: لماذا قَبِل هذه المهمة؟ ثم التمهيد للسفر، كيف وجد إسرائيل؟ والشخصيات الإسرائيلية التي التقاها، ثم فصل عن المؤسسات مثل الكنيست والكيبوتس وغيرهما وعن حياته ورحلاته في إسرائيل، ثم فصل عن مسيرة التطبيع، وآخر عن محادثات الحكم الذاتي الفلسطيني، وفي الفصل الثامن يتحدّث عن وقوف مصر في جانب الشرعية الدولية، ثم إتمام الانسحاب من سيناء، ثم فصل تحت عنوان "السلام والسلام البارد"، وفي الفصل الأخير يتحدّث عن غزو لبنان والذي تزامن مع استدعائه وعودته إلى مصر بسبب تطوّر الأحداث في ذلك الوقت. ويحكي "سعد مرتضى" عن البداية والتي كانت في 18 ديسمبر 1979 فيقول: "استدعاني الدكتور بطرس غالي لمقابلة في مكتبه، وما إن جلست حتى سألني "ما رأيك في إسرائيل؟"، وارتسمت على شفتيه شبه ابتسامة، وأضاف وكأنه يشجّعني على القبول: "إنك ستكون بذلك أول سفير لمصر في إسرائيل.. وستدخل التاريخ"، ولم أكن في حاجة للتشجيع على قبول المهمة، وربما لم يكن مما يهمني كثيراً أن يذكر التاريخ اسمي... إنني سبق أن فكرت في احتمال عرض هذا المنصب عليّ، لكنني عُدت فاستبعدت هذا الاحتمال؛ لاعتقادي أن المهمة سيكلّف بها أحد ممن شارك في محادثات السلام أو عمل في شئون فلسطين.. لذلك فوجئت بالعرض، ومع ذلك فإن اقتناعي المسبق بفكرة السلام مع إسرائيل دفعني إلى قبول المنصب دون تردّد. كان شرط اقتناع السفير "سعد مرتضى" بفكرة السلام مع إسرائيل مهمّاً؛ لكي يستطيع القبول بالمهمة الصعبة، فهو ليس سفيراً كأي سفير، ولكنه سيتعامل مع شعب يتخيّله معظم العرب كوحوش آدمية ونظام سادي، ولكن "سعد مرتضى" كان يرى شيئاً آخر، فيُؤكّد عبر مذكراته وفي أكثر من موضع "أن المجتمع أو الشعب اليهودي بأسره يودّ أن يعيش في سلام مع الدول العربية المحيطة به.. إنها ليست رغبة، بل هذه أمنيته التي يأمل أن تتحقق ولو بعد سنين طويلة". ولقد كان وضع السفير المصري في بداية رحلته مميزاً جداً، فيُؤكّد أنه "كانت الحفاوة والترحيب غير عاديين".. "لقد أمضيت سنوات طويلة في خدمة السلك الدبلوماسي المصري قبل سفري إلى إسرائيل، ولم أرَ خلالها مثل هذا الترحيب وتلك الحفاوة بأي شخص آخر". وبهذا الترحيب بدأ في الاندماج في المجتمع الإسرائيلي والذي شبّهه بالبوتقة التي انصهرت فيها العديد من الحضارات والثقافات ورغم تأكيده بأن "الفوارق بين هذه الطوائف واضحة، سواء في ملامح الوجه الأوروبية أو الشرقية، أو في طريقة المعيشة، وحتى في طريقة نطق اللغة العبرية"؛ فقد استطاعوا أن يجتمعوا على كون إسرائيل دولة عبرية يهودية. وفي الأيام الأولى عرف "مرتضى" أن اليهود يشتركون مع المسلمين في تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، وأدرك أيضا عندما سافر إلى إسرائيل "أن نحو 20% فقط من اليهود هناك هم من يتمسكون بكل تعاليم الدين اليهودي، ولكن كل اليهود من شعب إسرائيل يحترمون هذه التقاليد، ويعتبرونها جزءاً من تراثهم وحضارتهم حتى إذا لم يتّبعوها بدقة". وعن صفات الشعب الإسرائيلي المميزة قال: "إن شعب إسرائيل يتمتع بالنشاط والحيوية مع القدرة على التخيّل والابتكار، كما يتصف بالمرونة والتكيف السريع على الظروف الجديدة، ولا يلتزم المفكرون فيه بالنظريات والنصوص التي درسونها في الكتب، بل يستخدمون عقولهم وخيالهم. كما أنهم يطوّرون مراكزهم بسرعة، ويستفيدون من الأوراق الرابحة في أيديهم، ولا يقولون "لا" النهائية في البداية، ولكنهم يدفعون خصومهم إلى الرفض؛ لأنهم مفاوضون مهرة وعنيدون، ولا يعتمدون على الحق وحده، ولكنهم يستندون إلى الأمر الواقع والقوة. كما أن الوعي السياسي متقدم في إسرائيل، ويثق الإسرائيلي في إعلامه ومسئوليه؛ لأنهم عادة ما يتحدّثون بحرية وصراحة غير متوفرة في بعض دول المنطقة.. إنهم لا يُخفون الحقائق عن أنفسهم، ويسمّون الأشياء بأسمائها الحقيقية، ويعترفون غالباً بالفشل وبخسائرهم العسكرية. والإسرائيلي لا يسكت على وضع لا يعجبه دون أن يفصح عن رأيه، كما أنهم يتمتعون بروح الدعابة والفكاهة، ويُطلقون النكات حتى على اليهود ورجال الدين اليهودي. وللإنسان الإسرائيلي أحاسيسه ومشاعره وهو يعبّر عنها في مختلف المناسبات، وقد دفعتنا خلافاتنا وحروبنا معهم وما وقع خلالها من مذابح إلى أن نتصوّر أن الإسرائيلي متحجّر القلب. وأن الفرد الإسرائيلي لا يكتفي بكلمة "لا" ولا يقبلها بسهولة كإجابة لطلبه؛ إذ لا بد أن يسأل عن السبب، وأن يناقش ويقدّم الحجج ويلحّ حتى يحصل على طلبه، إن الإسرائيلي لا يعرف معنى "الباب المغلق"؛ فلكل باب طريقة خاصة لفتحه، وإلا فهناك أبواب أخرى يطرقها أو يدور حولها دون يأس أو ملل. أما أسطورة "البخل اليهودي" فهي ليست صحيحة على إطلاقها، فهناك الكريم والبخيل، ولكن الإسرائيلي عادة لا يبذّر المال، ولا ينفقه على المظاهر". كما تحدث الكتاب عن عرب إسرائيل، وكيف يقلّ مستوى معيشتهم عن اليهود ويعمل معظمهم بالزراعة، وعن اليهود والاحتفال بالأعياد والمحلات التجارية والمكتبات والسينما والمسرح. وهكذا يعتبر كتاب "مهمتي في إسرائيل" (من إصدارات دار الشروق) من الكتب القليلة التي تطرّقت إلى تجربة الحياة في قلب إسرائيل، وتحتوي خبرة حقيقية بالمجتمع الإسرائيلي اتفقنا معها أم لا. في الحلقة القادمة سنعرف كيف كانت رحلة "سعد مرتضى" إلى الكنيست، وهل رأى تلك الخريطة الشهيرة التي كُتب تحتها كما قيل "إسرائيل... من النيل إلى الفرات"؟ ومن هي أميرة السلام؟ وكيف تعاملت معها أجهزة الإعلام المصرية؟