هذا الكتاب مهم، موضوعه قائم ومعاصر، وطبيعة المعلومات التي قد نتنبأ بالحصول عليها من خلال القراءة شيقة وممتعة وضرورية، علي الرغم من أن الغلاف والعنوان يوحي بأننا سوف نغرق داخل الكتاب في سيل من الأرقام والإحصاءات والمعادلات والمعاملات الاقتصادية المعقدة الجامدة، إلا أن المؤلف مصطفي عبيد اختار مدخل الخلفيات التاريخية وأسلوبه في العرض الذي يوحي بروح "التحقيق المشوّق". ينقل المؤلف بوضوح لجوءه في أغلب الأحيان إلي الاستقصاء بنفسه عن حقائق وردت في السجلات هنا، أو مقابلة مع رجل أعمال مصري يفضح ملابسات سفره إلي إسرائيل هناك، أو - وهو الغالب فعلا - اعتماده عما نشر بخصوص ملف التطبيع الاقتصادي مع إسرائيل في الصحف المصرية، وأشهر المعارك الصحفية في هذا المجال، أو الرجوع إلي مؤلفات واعترافات سابقة تدور حول نفس الموضوع، كاستعانته بصلاح نصر مدير جهاز المخابرات العامة السابق في كتابه "الحرب الاقتصادية في المجتمع الإنساني" 1965? الذي يؤكد فيه أن اتفاقية كامب ديفيد جمّدت الحروب والصراعات المتبادلة بين مصر وإسرائيل خاصة في القطاعات الاقتصادية والتجارية. النتيجة التي يخلص إليها عبيد قد تكون ساذجة وسطحية لا تخرج عن نطاق الأسلوب الدعائي بضرورة اتباع أسلوب "المقاطعة" للبضائع والمنتجات الإسرائيلية، باعتبار المقاطعة تحقق الغاية من مقولة الحكيم الصيني صن تزو "إن أفضل قائد عسكري هو الذي لا يحارب أبدا". لكنه علي أية حال يفند المقدمات والأسباب التي "جرجرت" علي حد تعبيره العالم العربي ومنه أهل مصر إلي تطبيع يتستّر خلف عمائم "قومجية" أو دينية مع المشروع الصهيوني. في تقديم الكتاب بقلم مصباح قطب الذي اعتبر المقاطعة ذلك السلاح الجبار والشريف، وكتب أنه ليست قضيتنا هي اليهود أو اليهودية، بل احتلال يريد أن يلغي بلدا، يقول: "مرحبا باليهودي في فلسطين العربية - وفي كل بلد عربي - إنسانا ومواطنا وأخا وعبقريا وفنانا ومبتكرا، ولا أهلا به ولا سهلا خوذة وفكرة فاشية عنصرية". وهو الأمر الذي - كما يري - لا يجعل المرء يحتاج إلي "كتالوج" للمقاطعة. المؤلف عمل علي كتابه هذا منذ أكثر من ثلاث سنوات لجمع المعلومات وترتيب بياناته وأحداثه التاريخية التي يستند إليها، ومع ذلك فاته - كما يشير قطب في المقدمة - تزويد الكتاب ببيانات حديثة عن التجارة بين مصر وإسرائيل، التي أصبح الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء يتيحها بأسهل من ذي قبل، لكنه خصص فصلا بعنوان "لجنة السياسات والتطبيع" لمعرفة "كيف يفكّر جيل التوريث في الصراع العربي الإسرائيلي؟"، وفي هذا الفصل يعرض المؤلف لتفاصيل تأييد اتحاد الصناعات المصرية لاتفاقية الكويز - مناطق صناعية مشتركة مع إسرائيل - التي طرحت منتصف التسعينيات، ويحذّر بأن هناك نسخة جديدة من "شرق أوسطية بيريزية" قادمة غير تلك التي فشلت من قبل. من الحقائق التاريخية عام 1951 حينما أقرّ مجلس الجامعة العربية بإقامة مكاتب للمقاطعة في البلاد العربية، وجعل مقرّها الرئيسي في دمشق، واستتبعه قرار عام 1954 بمقاطعة جميع السلع التي تنتجها المصانع اليهودية في فلسطين، حتي جاء منتصف الستينيات وكانت 2626 شركة عالمية كبري في مصر قد أوقفت أنشطتها في إسرائيل، ثم لجأت إسرائيل إلي "المقاطعة المضادة"، حيث أنشأت مكاتب تابعة لوزارتي الخارجية والتجارة لتتبّع نشاط المقاطعة في العالم العربي وإضعاف آثارها، وجرّاء ذلك شهد الاقتصاد الإسرائيلي توسعا كبيرا خلال العشرين عاما الأخيرة. بعيدا عن الاعتماد علي نظرية المؤامرة واقترابا من مقولة كارل ماركس: "المال هو إله إسرائيل المطاع، وأمامه لا ينبغي لأي إله آخر أن يعيش"، يستعرض المؤلف بدايات التعاون المصري الإسرائيلي الزراعي، بدءا من عام 1981 حينما وصل آرييل شارون وزير الزراعة الإسرائيلي وقتها إلي القاهرة والتقي السادات، إلي حد أن يدّعي موشيه ساسون أول سفير لإسرائيل بالقاهرة في كتابه "7 سنوات في بلاط المصريين" بأن التطبيع الزراعي كان حلما للسادات تاليا علي حلم استرداد سيناء. في فصل مهم بعنوان "جرائم البيزنس الإسرائيلي" يستعرض المؤلف تاريخ ما أسماه جواسيس صهيون، فقد كان مبدأ دولة إسرائيل منذ قيامها وحتي الآن هو التجسس، وهذه الغريزة لم تتأثر بتوقيع اتفاقية السلام بين إسرائيل ومصر، فقد سجلت ملفات المخابرات عن تاريخ التجسس علي مصر 47 حالة منذ قيام إسرائيل. يورد المؤلف معلومات تاريخية مسجلة للتدليل علي أن أغلب الاستثمارات الإسرائيلية في مصر مرتبطة بالتجسس، مثل قصة بولاند هارس أول جاسوسة إسرائيلية في مصر والتي تم ضبطها في مايو 1948 وأطلق سراحها عام 1987? وفائقة مصراتي التي تجسست علي مصر اقتصاديا من خلال ممارسة الدعارة مع أبناء رجال الأعمال في أحد نوادي مصر الجديدة، فضلا عن أشهر قصص التجسس بين مصر وإسرائيل الجاسوس عزام عزام ضابط الموساد، وأفرج عنه في نهاية عام 2004 في صفقة يقول المؤلف أنها اعتبرت وقتذاك علي المستوي الإعلامي تنازلا فجا. وبعد استعراض مواقف المثقفين المتباينة من مسألة التطبيع أو المقاطعة، ما بين مؤيد لاتفاقية السلام مثل نجيب محفوظ وزكي نجيب محمود وتوفيق الحكيم، ينتهي المؤلف إلي أنه لا يستطيع أحد أن يمنع رجال أعمال من الشراء أو البيع للإسرائيليين، فلا قانون ينص علي ذلك، كما أن شأن البيزنس أنه لا يعرف ديناً أو وطناً أو تاريخاً أو جغرافيا، لكنه يؤكد أنه لا يمكن التعاون الاقتصادي مع إسرائيل في ظل استمرار الصراع.