"والله لو حلفت لي على المية تجمد إن البنت دي كانت ولد في يوم من الأيام ما هاصدّقك أبداً يا عم، لو مش شايف شكلها اسمع صوتها". هذا بالضبط كان انطباع صديقي عندما أخبرته أن اللقاء الذي كان يُجريه على الشاشة وقتها د.سعد المغربي -وكيل أول وزارة الصحة لشئون العلاج الحرّ والتراخيص الطبية- مع هذه الفتاة على قناة "الحياة" هو لقاء مع فتاة كانت ذكراً وتحول لأنثى. وأنا هنا لا أنوي الدخول في تفاصيل جدلية حول قانونية وشرعية عمليات التحويل من عدمها؛ فهذا موضوع أخذ حقه "تالت ومتلّت" من الحديث والرغي بنوعيه المفيد وغير المفيد؛ ولكن ما يثير قلقي هنا هو موضوع قديم أعيد فتحه رغماً عن أنوف الكارهين.. ألا وهو قضية "الشواذ في مصر" وأعدادهم الحقيقية ومصيرهم الطبي والاجتماعي في هذا المجتمع الذي رفض الاعتراف بوجودهم من الأصل على مدار سنوات وسنوات من التجاهل. وفي البداية علينا أن نفرّق بين ثلاثة أنواع من هذا المرض حتى لا يختلط علينا الحديث... 1- مزدوج الجنس أو المعروف ب"المخنّث" أو الجنس الثالث، وأحد أسبابه زواج الأقارب، وفيه يولد الجنين حاملاً الصفتين الذكورية والأنثوية؛ بمعنى آخر فالمخنّث يحمل العضوين الذكري والأنثوي؛ ولكن يعاني أحد العضوين من التشوّه فيُطمس ولا يكون ظاهراً بالقدر الكافي ويتعامل معه الأهل على أنه مجرد زيادات خِلْقية، ويعتبرونه رجلاً لو كان العضو المشوّه أنثوياً، وفي هذه الحالة يتوجّب التدخل الجراحي المباشر لإجراء عملية التحوّل شرعاً وقانوناً بعد موافقة نقابة الأطباء. ويرجع المحدد الأساسي في اختيار التحوّل إلى أي من الجنسين إلى رغبة المريض نفسه وإحساسه بنفسه كذكر أم كأنثى، ويساعده في ذلك الطبيب النفسي، وفي هذه الحالة لا دخل للمريض في الوضع الذي آل إليه؛ باستثناء أن المسبّبات الجينية هي التي آلت به إلى هذا الوضع. 2- النوع الثاني هم "المتحوّلون" transsexual وهذه الفئة تولد بشكل طبيعي من الناحية الجسدية، ولكن المشكلة تكمن في أن معدلات هرمونات الذكورة (التستوستيرون) أو هرمونات الأنوثة (الإستروجين) يتفوق أحدهما على الآخر؛ فلو كان ذكراً نجد أن هرمونات الأنوثة هي التي تتفوق على هرمونات الذكورة والعكس صحيح، وأيضاً التدخّل الطبي ضروري في هذه الحالة إلى جانب التدخل النفسي الذي يلعب هو الآخر دوراً هاماً، وهذه الحالة لا تختلف كثيراً عن الحالة الأولى، وفيها يكون الشخص مجرد ضحية لوضع طبي لم يختره. 3- النوع الثالث وهم "المثليون" homosexual وهؤلاء المرضى يولدون بشكل طبيعي جداً دون أيّ تشوّه خِلْقي؛ ولكن كل ما في الأمر أن لديهم اضطراباً نفسياً، ويكون ميلهم أكثر نحو الجنس نفسه؛ سواء نتيجة خبرةً ما تعرضون لها في الماضي (تحرّش جنسي ناقص أو كامل) أو ما إلى غير ذلك.. المهم أن النتيجة التي يئول إليها الوضع في النهاية هي أنه يميل إلى ذات جنسه وينفر من الجنس الآخر؛ لأن القالب الجنسي الخاص به تمّ العبث به في مرحلة الطفولة وتوجيهه إلى الاتجاه الخاطئ؛ فيستمرّ في هذا الاتجاه.. وهذا النوع يمتلك إرادة المقاومة إذا أراد؛ ولكنه لا يقاوم (أغلبهم). وأياً كانت النسبة الغالبة في مجتمع الشواذ سواء من المخنّثين أو المتحوّلين أو المثليّين؛ إلا أن التعامل في النهاية معهم هو تعامل واحد لا يفرّق بينهم على الإطلاق؛ على الرغم من أن هناك فروقاً واضحة بينهم؛ فالنوعان الأول والثاني لا ذنب لهم فيما خُلقوا عليه؛ فهو اختيار إلهي للشاكلة التي خُلقوا عليها، ولا يجوز لنا التعامل معهم كمخطئين وفاجرين لهذا السبب، والكلام هنا ينصبّ بالأخص على أهل المرضى ودائرة المعارف المقرّبة جداً منهم. أما النوع الثالث فهو ملوم لأنه لم يحاول أن يساعد نفسه، لم يقاوم، لم يطلب المساعدة، واستمر في هذا الوضع راغباً ومستمتعاً، وبالتالي خسروا تعاطفنا ومساندتنا. أكاد أرى عقلك حالياً يزأر غضباً قائلاً: هل كاتب المقال ينوي أن يُعيد على مسامعنا تلك النغمة "البايتة" و"المرفوضة" المتعلّقة بالتكيّف معهم ودمجهم في المجتمع ومعاملتهم كأناس عاديّين مثلنا مثلهم؟ ولتسمح لي إذن أن أحبطك وأخالف توقعاتك كالتالي: أنا هنا لا أدعو إلى دمج "جيتو" الشواذ داخل المجتمع المصري؛ لأنه لا يمكن دمجهم وفقاً لوضعهم الحالي، والفكرة في حدّ ذاتها غير واقعية ولا يمكن تطبيقها؛ لأن الرابط الأساسي الذي يجمع هذه الفئة من الناس هو أمر محرّم نصاً في آيات القرآن الكريم، ويتوعد الله فاعله بعقاب عظيم.. ونحن شعب بطبيعته متدين -حتى وإن أخللنا بهذا التديّن في بعض تصرفاتنا الخاطئة أحياناً- وبخلاف الدين، فالعادات والتقاليد والناموس الاجتماعي نفسه سوف يجهض عملية الدمج هذه بكل ما يملك من قوة؛ فلن يتقبل أحد أن يجالسهم أو يخالطهم في أي صورة من صور الحياة الطبيعية. ولإخواني في جمعيات حقوق الإنسان أرجو ألا تثير عباراتي غضبهم؛ فما أقول إنما هو مجرد نقل أمين للواقع، دون أية إضافة أو حذف؛ بل نقل للصورة كما هي، حتى وإن لم تعجبكم. والوضع الحالي لمجتمع الشذوذ في مصر هو حالة ضمن الحالات النادرة التي لا يصلح معها تطبيق المقولة الشهيرة "يبقى الوضع على ما هو عليه"؛ لأن الوضع لن يبقى كثيراً على ما هو عليه؛ فقد تغيّر بالفعل عن السنوات الماضية، وسوف يتغير أكثر وأكثر خلال السنوات القادمة، ولنحاول سوياً تجسيد هذا التغيّر.. إن التطور الذي حدث وما زال يحدث في أسلوب حياة ومعيشة الشواذ خلال الفترات الماضية يُنذر بصدام مجتمعي مخيف بعض الشيء، قد يتطور إلى ما لا تُحمد عقباه. فالشواذ في الماضي كان لهم أماكن تجمّعات سرّية لا يعرفها سواهم، وكانوا يفضّلون في الأغلب ألا تكون داخل أماكن عامة، وبالتالي كانوا شديدي الحرص في البداية على أن يكونوا منغلقين على أنفسهم، وألا يعرف عنهم أحد أي شيء. ومع الوقت أصبحوا أكثر جرأة؛ فخرجوا إلى الشارع وباتت أماكنهم معروفة في أماكن بعينها؛ فكان المقر القديم في شارع رمسيس، ثم تغيّر وأصبح في ميدان التحرير.. بصرف النظر عن تحديد الأماكن بعينها؛ لسببين أولهما: أن كثيراً منا يعرف هذه الأماكن، والسبب الثاني: أنه لن يفيد القارئ بشيء، وإذا كان مظهرهم في الماضي لا يدلّ على أي شيء غير طبيعي؛ فقد تغيّر الوضع في الوقت الحالي. الأمر تطوّر أكثر فأكثر عندما بدأوا محاولات الاندماج داخل المجتمع؛ وذلك من خلال جلوسهم في المقاهي المعروفة جداً في منطقة التحرير خلف البنك المركزي، وأشهد أنني بعيني رأيت بعض المشادات تحدث بينهم وبين رواد هذه المقاهي أحياناً وبين أصحاب المقاهي أنفسهم في أحيان أخرى اعتراضاً على طريقة الكلام أو ربما بعض التصرفات اللافتة للنظر بشدة. قد يكون هذا التطوّر الذي طرأ عليهم أو الجرأة التي انتابت تصرفاتهم -وإن كنا نقف تجاهها موقف المحايد فلا نُدينها ولا نشجّعها- هو نتيجة طبيعية لتناول شخصياتهم في الأعمال السينمائية والدرامية سواء على منحى جدّيّ أو منحى هزليّ، أو ربما كنتيجة لانتفاضة جمعيات ومراكز حقوق الإنسان للدفاع ضد أي سوء يتعرضون له. سبب تعرضنا لهذا التطور، هو التنبيه على أن المجتمع لن يتقبل بأي حال من الأحوال هذا الاندماج؛ فسكوته على وجودهم لا يعني تقبّلهم للاندماج، وليس الاندماج على هذا الوضع الحالي يعني علاجاً للمشكلة بأي حال من الأحوال؛ ولكنه في رأيي نوع من أنواع الاستسهال والاستهبال في الوقت ذاته من قِبَل صفوة المتخصصين والمثقفين وأساتذة الطب عن أداء مسئولياتهم المهنية والاجتماعية تجاه هذه الفئة من الناس. هل يستطيع أحد أن يجيبني عندما أتساءل عن أعدادهم في القاهرة فقط ولن أقول المحافظات؟ لا أحد يعرف ولا أحد يريد أن يعرف.. هل أُجرِيت عليهم أية بحوث اجتماعية أو نفسية أو أية مسوحات من أي نوع للتعرّف على الدوافع الأكثر شيوعاً لسلوكهم هذا الدرب؟ ازدراء هذه الفئة ليس هو الحل وإدماجهم -كما سبق وذكرنا- أيضاً ليس هو الحل؛ بل الحل في محاولة دراسة هذه المشكلة بشكل علمي والتعرّف على الدوافع والأسباب ومحاولة السير في اتجاهين: الاتجاه الأول: هو اجتثاث المشكلة من الجذور، وهي مرحلة الطفولة التي غالباً ما يتعرض فيها الطفل لخبرة جنسية مع ذات النوع، تتسبب في إحداث هذا التغير الجذري في القالب الذكوري أو الأنثوي، وبالتالي يمكننا إعطاء تعليمات عن أكثر الأماكن التي يمكن أن يتعرض لها الأطفال لمثل هذه الممارسات، كذلك إعطاء توجيهات للأُسَر حول كيفية الاكتشاف المبكّر لهذا التحوّل السلوكي وكيفية التعامل معه، ولإدارات المدارس بتشديد الرقابة على المناطق الأكثر عرضة لأن تشهد أحداثاً من هذا الشكل. الاتجاه الثاني: هو محاولة علاج المرضى الفعليّين والمنتشرين بالفعل في شوارع القاهرة، علاجهم نفسياً وطبياً في الوقت ذاته من خلال تخصيص جمعية أو مركز طبيّ وخط ساخن لتلقي طلباتهم للعلاج ومساعدتهم على اعتبار أن ما هم فيه مجرد مرض مثل باقي الأمراض الأخرى. د. هبة قطب -أستاذة الصحة الجنسية- تحارب منذ سنوات الدعوات الطبيّة اليائسة التي تقول بأنه لا حلّ طبياً للشواذ سوى التصالح مع الذات أو ممارسة الشذوذ خارج البلاد؛ فهذه الدعوات هي تجسيد دقيق جداً للاستسهال والاستهبال الذي كنت أتحدث عنه لتوّي، وتخلٍّ واضح عن مسئولياتهم الاجتماعية تجاه هذه الفئة. فالدكتورة "هبة" أكّدت مرات عدة أنه جائز جداً علاج هذه الفئة نفسياً وطبياً، ولكن العلاج النفسي هو العامل الأكبر في هذا الشأن، وكم كنت أتمنى أن يكون من بين قراء هذا المقال المتواضع العالم الكبير ورئيس الجمعية المصرية للطب النفسي والرئيس السابق للجمعية العالمية للطب النفسي د. "أحمد عكاشة" كي ينطلق في تأسيس جمعية لعلاج هذه الفئة من المجتمع. شئنا أم أبينا هم جزء من لحم هذا الوطن، ستزدرينا الأمم لو تخلّينا عنهم، وسيحاسب الله ولاة أمورنا لو أهملوهم، وسيُصاب المجتمع بفتنة طائفية عضال لو سمحنا لهم بالاندماج في المجتمع على الوضع القائم حالياً؛ فلنمُدّ لهم يد العون قبل أن يتحول ما يُمارَس في الخفاء إلى العلن، ويصبح حقاً مكتسباً يأثم من يمنعه، ويأثم من يعتبره مرضاً.
وحينها.. حتى وقت العلاج سيكون قد ولّى وفات فهل من مجيب؟!! إضغط لمشاهدة الفيديو: