لم يكن هناك وقت للتفكير، كانت الدقائق حاسمة وتدفعه دفعاً لفعل ما فعل، فأوقف الأتوبيس، وسحب من أسفل مقعده تلك البندقية الآلية التي اشتراها كي يسترد بها كرامته، وقف بين من اعتاد أن يقلّهم يومياً إلى مقر الشركة، فيضحك معهم أحياناً، ويأخذ على خاطره منهم أحياناً أخرى. وقف يصرخ بكل ما فيه من حرقة وغضب على كرامته منادياً: "عبد الفتاح" يطلع لي.. ثم كرّرها ثانية فثالثة قبل أن يتوجّه إليه في مقعده حيث كان مختبئاً أسفله، وصوّب فوهة السلاح نحو رأسه، فصرخ "عبد الفتاح" ممسكاً بقدمه: أبوس إيدك يا "عم محمود" ما تضربش نار، ولكن "عم محمود" أطلق 15 طلقة في رأسه وصدره، ثم فرّق باقي الرصاص على باقي الركاب في حالة هستيرية لم يصدق معها الركاب أن "عم محمود" ذلك الرجل الطيب يقتل من بينهم 6 ويصيب مثلهم.
الروايات التي تناثرت في أعقاب وقوع هذه الحادثة سواء تلك التي رواها القاتل نفسه "محمود سويلم" أو التي رواها المقربون من القاتل والقتيل، ورغم تباينها فإنها جميعاً اتفقت في شيء واحد، ألا وهو أن القاتل فعل ما فعل ثأراً لكرامته التي ضاعت على يد القتيل الذي جعل منه مسخاً بين زملائه، لا يكفّ عن المزاح منه وعليه في كل وقت وحين، الغضب إذن هو ما أوصل "عم محمود سويلم" إلى فعل ما فعل.
عم محمود واصل حياته الطبيعية بعد الحادث ما هو الغضب إن الغضب هو عاطفة شعورية تختلف حدتها من الغضب الخفيف انتهاء بالثورة الحادة، إذن يمكننا أن نقول إن الغضب هو حالة إنسانية يتعرّض لها جميع البشر، ولكن يبقى السؤال: هل كل من يشعر بالغضب يكون رد فعله القتل؟ الإجابة على هذا السؤال تتوقّف على درجة الغضب التي يصل إليها الإنسان حسب قوة المسبّب لهذا الغضب، ولكن أياً كان المسبب لذلك الغضب البالغ، فهل من المعقول أن يصل به إلى درجة إنهاء حياة الطرف الآخر؟ هكذا وبكل بساطة يصدر قراره للقلب بالتوقّف وللرئة باعتزال التنفس.. التفكير في هذه الفرضية في حد ذاته أمر رهيب، سألنا شخصين.. ماذا يمكن أن يغضبك لدرجة القتل؟ فكانت هذه إجابة كل منهما:
1- كرامتي هي حياتي.. ومن يتعدَّ عليها يطلبْ مماتي، أنت لا تعرف معنى أن تهان كرامتك، أن تصبح مسخاً وأضحوكة وسط كل من تعرف، أن يصبح التندر على سيرتك مشاعاً لمن تعرف ومن لا تعرف، أن تصبح لُب القعدة وتسليته، أن تُصبح السخرية من شكلك وبيتك أمراً مقبولاً ولطيفاً ولا مانع منه، طالما يرسم ذلك الابتسامات اللطيفة على وجوه الآخرين، إحساس الإهانة إحساس بحق صعب، وضياع الكرامة إحساس أصعب في حال تراكم حتماً سيؤدي للقتل.
2- جرّب أن تتعرّض لشرفي بالكلام أو بالفعل، بالتلميح أو بالتصريح، وهتشوف ساعتها إزاي إن قتلك هيبقى سهل بالنسبة لي، أنا لست متخصصاً كي أشرح لك ما يحدث بالضبط قبل أن أصل إلى هذه المرحلة، ولكن كل ما أشعر به أن اندفاعاً في الدم يجري بكل هيجان ناحية رأسي، وأكون على استعداد وقتها لأن أفعل أي شيء كي أتخلّص من هذا الإحساس.
اغضب كما تشاءُ الغضب موجود منذ أن خلقنا الله عزّ وجل، ووضع بذرة البشرية الأولى آدم عليه السلام، فقتل قابيل أخاه هابيل بفعل الغضب، ولكن القتل في مصر أصبح حالة عامة على رأي عادل إمام في فيلم "النوم في العسل"، فهل انتشر الغضب المسبب للقتل أم انتشر القتل بحجة الغضب؟ وكيف يكون إنهاء حياة إنسان قراراً يُتخذ بهذه السهولة؟ كيف فقدنا المعنى السامي والقيمة المقدّسة للإنسانية وللحياة البشرية؟!
عدم التحكم في الغضب هو قمة الغضب صحيح أن الغضب هو شعور إنساني خلقه الله فينا، ولكنه خلق معه العقل، وإذا تدبّرنا قليلاً لخرجنا بحكمة مفادها أن العقل يسيطر على تلك المشاعر الإنسانية، تماماً مثل منظّم الأنبوبة الذي يتحكّم في كمية الغاز الخارجة إلى البوتاجاز، ولكن -وعلى ما يبدو- شيء ما طرأ وتعرّض ذاك المنظّم لمكروه، فأصبحت مشاعر الغضب التي تخرج منّا تخرج بدون أي تحكّم، فتكون النتيجة أن ينفجر أنبوب الغضب في وجه المجتمع، ويكون القتل سبيلاً وارداً جداً للخلاص من إحساس الغضب الذي يسببه لنا شخص ما.
أنت مثلاً.. هل تنكر أنك ستفكّر بقتل من يتناول شرف أختك أو أمّك بالكلام في المنطقة التي تسكن بها على سبيل المثال؟!! وأرجوك لا تحاول النفي؛ لأن أغلبية الجرائم التي نتصفّحها في صفحات الحوادث هي جرائم قتل شرف على السمع فقط، وأنت جزء من هذا المجتمع ومتأثّر بعقليته.
بالتأكيد ليس المغزى هنا أن نجعل من أنفسنا "قزايز" مياه ساقعة! فلا نشعر بأي إهانة توجّه لكرامتنا أو شرفنا.. لكن كل اللي مطلوب أن نُشغّل المنظّم الخاص بالغضب عشان نتحكّم في كم الغضب الخارج على قدر الموقف؛ لأن القتل جريمة دينية وإنسانية يهتز لها عرش الملكوت الأعلى، وأصعب عند الله من هدم الكعبة نفسه، حتى لو كان المقتول شخصاً مذنباً.
لماذا أصبح الغضب والقتل مشاهد عادية مثل البطالة والفقر؟؟ وأنت........ معقول الغضب يدفعك للقتل؟ ويا ترى إزاي تقدر تضبط منظّم غضبك بحيث ما تقتلش وفي نفس الوقت ما تتهانش؟ رُد بصراحة ومن غير غضب!!