تحت لهيب الشمس المحرقة، ومشاعر اليأس الأشد إحراقاً، يتحرّك شاب في الثلاثين من عمره، يحمل بين راحتيه حبلاً ويحمل بين جوانحه يأساً، ويحمل في عقله قراراً بالانتحار.. يسير في الطرقات يتلصص ويترقّب المارة في هذا الوقت العصيب، تغفل عنه العيون وهو يربط الحبل في سور الجسر، يحكم الوثاق، يأخذ دائرته من الطرف الآخر، يضعها حول رقبته، ويرتفع دون تردد فوق حديد الجسر، ويُلقِي بنفسه من أعلى الجسر ويسقط.. يحكم الحبل قبضته على عنقه، فيموت.. يأتي رجال الإنقاذ بعد فوات الأوان، يرفعون الجسد البالي، يُفتّشون في جيبه فيجدون خطاباً كتبه ذلك البائس إلى حبيبته، بأنه قرر الانتحار؛ لأنه لا يستطيع العيش بدونها بعد أن رفض أهلها ارتباطه بها وزواجه منها.. نعم أخيراً فتّش أحد عن شيء يخص هذا الشاب! فتشوا في جيبه ليجدوا خطاب الرحيل بعد أن يأس من أن يُفتّش أحد في غيبه ويتحسس قلبه ليدرك ما فيه من حب متأجج مريض لهذه الفتاة التي كانت تُمثّل له روح الحياة ووجد فيها -ولو وهماً- سبيل النجاة الوحيد لضياع يستشعره في نفسه، ولكن أمله تكسّر على عتبات الواقع المرير والعقول المتحجرة والقلوب الغافلة عن مشاعر الشباب في زمن طغت فيه الماديات على كل شيء.. أتأمل كل هذا ثم أجد سؤالاً يتردد في نفسي: ما هي آخر كلمات قالها هذا الشاب إلى الله، هل اعتذر إليه أنه سيزهق الروح التي أمِنه عليها؟!! هل شكا إليه عجزه وعدم قدرته على أن يتحمّل هذا الألم؟!! هل طلب منه أن يغفر له ويعفو عنه؛ لأنه عجز في نفسه ثم عجز عن أن يستلهم القدرة من ربه لتعينه على ما أصابه؟!! هل نطق بالشهادتين، وسلّم على رسول الله وبكى، وقال له: "سامحني يا سيدي، فقد أحببت وها أنا ذا أشكو إليك أنّ أهل من أحببت لم يستمعوا إليك ولم يرضوا حكمك ولم يتكشفوا بصيرتك حين قلت: لا نعرف للمتحابين غير النكاح".. لم يفهموا أنك كنت تحفظ أمتك بتوجيهك للآباء والأمهات بأن يُزوّجوا المتحابين من الشعور بالضياع ومن الخيانة ومن الزنا ومن الموت شنقاً أو غرقاً أو حرقاً تحت سطوة الشعور بالعجز.. هل بكى؟!! كيف هانت عليه روحه؟!! وما الذي جعله يصل إلى هذه الدرجة من اليأس؟!! وهل المجتمع بكل مادياته بريء من إزهاق هذه الروح؟!! أكاد أشعر أنهم قتلوه قبل أن يقتل نفسه.. شنقوا روحه فهان عليه -في لحظة عجز ويأس زين له الشيطان فيها نهايته- أن يزهقها ويتخلّص منها.. أنا لا أحاول أن أجد تبريراً، بل أحاول أن أجد تفسيراً لما حدث، أحاول ألا يمر هذا الحدث مرور الكرام، وجميع رسالات السماء حرّمت أن يزهق الإنسان روحه.. كيف لم يهتز هذا البلد أمام هذه الصرخة من الاحتجاج؟!! كيف لا يقف الإعلاميون وعلماء النفس والاجتماع ليقرأوا هذه الرسالة الواضحة المليئة بالاحتجاج واليأس لنفهمها ونُدرِك ما بها؟!! كيف لا تكون عبرة لكثير من الآباء والأمهات وأولياء الأمور الذين يغفلون عن علاقات بناتهم العاطفية فإذا تقدّم الشاب واجهوه بأنه لا يصلح للزواج؛ لأنه لا يملك المال أو الوظيفة أو القدرة على أن يأتي بشبكة تُشرّف ابنتهم أمام الناس؟!!
كيف لا يخرج علينا رجل رشيد ينهرنا ويقول لنا: زوّجوا بناتكم أيها الراشدون ممن يحبونهم، ولا تجعلوا الماديات عائقاً أمام تحقق أمل القلوب، فإن كان هذا الشاب شنق نفسه وسقط من فوق جسر قصر النيل، فكثير من الشباب شنقوا مشاعرهم وسقطوا من فوق جسر اليأس والإحباط ويعيشون بينكم كالأشباح وأنتم لا تشعرون!! إن المشكلة الحقيقية ليست في أن روحاً أزهقت، بل في مجتمع أزهق روحه، وقتل أغلى ما فيه، مجتمع نسي أن النجوم التي تملأ سماواته نوراً وحباً وأملاً هم الشباب.. وبدلاً من أن يحفظهم ويستمد الحياة من ضيائهم حوّلهم من مشروع حياة إلى قرار بالانتحار..