البعض منا يسمع عن مصطلح المجتمع المدني، وقد لا يفهم مقصوده، ويسمع عن جمعيات المجتمع المدني؛ خاصة تلك المهتمّة بشئون الطفل والمرأة والتعليم وغيره؛ فهو مصطلح حديث نسبياً، لم يكن معروفاً بهذا الانتشار قبل عشرين عاماً، يعني منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة؛ لكنه أحد إفرازاتها؛ خاصة مع شيوع النظام الديمقراطي كنظام وحيد مهيمن على العالم. ومعنى المدني أنه ضد العسكري، كما أن الشخص المدني هو المواطن العادي المسالم، وهذه الجمعيات التي تهتم به هي جمعيات مدنية لها أهداف خَدَمية بالأساس بعيدة عن السياسة. لكن الجديد في الموضوع هو ظهور مصطلح جديد في العلوم الشرعية، وتحديداً في فقه الجهاد؛ هذا المصطلح هو "الجهاد المدني"، وكما قلنا فهو مصطلح حديث لم يتحدث عنه الإمام ابن القيّم، الذي أفاض في الحديث عن موضوع الجهاد وأنواعه، وعدّ منها 13 نوعاً منها (جهاد النفس، والشيطان، والظَّلَمة، والكفار) وداخل كل نوع تقسيمات فرعية؛ لكن المهم أنه لم يتحدث عن الجهاد المدني. فهل لأن المجتمع في عصر ابن القيم لم يسمع عنه؟ وهل يختلف في مضمونه الحالي عما كان موجوداً في العصور السابقة؟.. بمعنى أن مضمون هذا المصطلح هو نفس مضمون ما كان سائداً من قبل، وأن ما حدث هو مجرد وضع الاسم فقط؟ معنى الجهاد المدني الدكتور يوسف القرضاوي -الذي يُعدّ صاحب هذا المصطلح- يوضّح المقصود منه في كتابه فقه الجهاد بقوله: "الجهاد المدني يقصد به الجهاد الذي يلبّي حاجات المجتمع المختلفة ويعالج مشكلاته المتنوعة، وينهض بالمجتمع في سائر المجالات؛ حتى يتبوأ مكانته اللائقة به؛ لذا فهو يشمل -أي الجهاد المدني- عدة مجالات؛ منها المجال العلمي والثقافي، المجال الاجتماعي، المجال الاقتصادي، المجال التعليمي والتربوي، المجال الصحي والطبي، المجال البيئي والمجال الحضاري بصفة عامة". إذن فإن الدكتور القرضاوي يريد أن يوضّح أن كل عمل صالح يمكن أن يكون نوعاً من أنواع الجهاد، ما دام هذا العمل يعود بالنفع على الشخص أو أهله، أو المجتمع، وأن الجهاد ليس قاصراً على الجهاد المسلّح فقط -القتال- كما يفهم الكثير من الشباب الآن. وكعادته؛ فإن الدكتور القرضاوي يسوق الأدلة الشرعية ليدلّل على ما يقول. ذاكِر جيّداً فأنت تجاهد طبعاً شاعت مفاهيم لدى شباب اليوم بأن العلم لا يكيل إلا.... طبعاً عارفين بماذا؟ والكلمة لعادل إمام، ومقولات مثل (اللي ذاكروا أخذوا إيه؟)؛ خاصة في ظل وجود الجامعات الخاصة التي يشتري بها الفاشل المجموع الذي يحتاج إليه؛ فلم يعدْ هناك فارق بين الذي سهر الليالي أمام الكتاب من أجل الحصول على مجموع يؤهّله لكلية الطب أو الهندسة وبين الذي لم يذاكر إلا قليلاً ودخل الطبّ أو الهندسة ب75%. لكن هذا المعنى السيئ يختفي عندما يستشعر الطالب أنه مجاهد في سبيل الله. وهنا يسوق القرضاوي تدليلاً على هذا النوع من الجهاد الذي سماه "الجهاد العلمي"؛ فهناك حديث لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أنس رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خرج في طلب العلم؛ فهو في سبيل الله حتى يرجع". ونفهم من هذا الكلام أن الذهاب للجامعة هو لون من ألوان الجهاد، ومتاعب المواصلات والحر والبرد نوع من الجهاد؛ ولكن يجب التفريق؛ فالذهاب إلى الجامعة لأمور أخرى قد يكون في المقابل درباً من دروب الشيطان.. (والمعنى مفهوم بكل تأكيد).
من فضلك لا تُغضب وَالِدَيك فهذا جهاد ليس ميدان الجهاد كما قلنا هو ساحة الحرب فقط؛ وإنما يعدّ السعي لخدمة النفس، أو خدمة الأهل والمجتمع نوعاً من أنواع ما يسمّى "بالجهاد الاجتماعي".. وهنا يذكّر القرضاوي بحديث هام ورد في صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستأذن في الجهاد؛ فقال: أحيّ والداك؟ قال: نعم. قال ففيهما جاهد". إذن البر بالوالدين وتحمّل أذاهما والصبر عليهما هو لون من ألوان الجهاد؛ فكما أن المجاهد يصبر على ما يلاقيه في ساحة القتال من جوع وعطش وتعرّض للهلاك؛ فإن الذي يصبر على والديه ولا يرفع صوته بكلمة -ولو أف- هو مجاهد أيضاً. عمل وجهاد في ذات الوقت تعتبر عفة النفس عن التسوّل وسؤال الناس لوناً آخر من ألوان الجهاد الذي أطلق عليه القرضاوي "الجهاد الاقتصادي"؛ هذا المعنى أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم "مرّ رجل على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فرأى الصحابة جِدّه ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله؟ (بمعنى لو خرج هذا الرجل ليجاهد) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً؛ فهو في سبيل الله (بمعنى لو خرج لإطعام أبنائه الصغار)، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين؛ فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يُعِفها؛ فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياءً ومفاخرة؛ فهو في سبيل الشيطان". وهكذا يوضّح الرسول أن الجهاد ليس فقط القتال؛ وإنما السعي والنشاط والعمل مع نيّة طيبة مشروعة؛ يعدّ لوناً من الجهاد. لذا فإن الجهاد الاقتصادي -وفقاً للقرضاوي- هو فرع من فروع الجهاد المدني، وكذلك كل عمل ينهض باقتصاد المجتمع، وينقله من دائرة الاستهلاك إلى الإنتاج ومن الاستيراد إلى التصدير، ومن التبعية إلى الاستقلال؛ فهو لون من الجهاد المدني المنشود. والأمر ذاته بالنسبة "للجهاد التربوي" الذي يهتمّ بصنع الأجيال القادرة على النهوض بالأمة، ورعاية الموهوبين، وكذلك "الجهاد الصحي" الذي يتمثل في الاهتمام برفع المستوى الصحيّ للشعب، وأيضاً "الجهاد البيئي" المتمثّل في الحفاظ على بيئة نظيفة وآمنة؛ فالإسلام دين النظافة. وهكذا يوضّح القرضاوي أن أبواب الجهاد متنوعة ومفتوحة، وكما أن هناك جهاداً عسكرياً؛ فهناك جهاد مدني أوسع وأرحب وأسهل؛ المهم تصحيح النية، والبدء في العمل، وعلى الله فتوكّولوا إن كنتم مؤمنين.. فهيا يا شباب. اقرأ أيضاً في معنى الجهاد.. جاهد نفسك قبل مجاهدة عدوك مع القرضاوي.. الجهاد ولا التربية.. ربّي نفسك أولاً (2) مع القرضاوي: رسالة للفنانات المحجبات.. الاعتزال ليس الحل(3) مع القرضاوي: الجهاد بالنفس من أجل أرض فلسطين (4) مع القرضاوي: هل يجب الجهاد مرة كل سنة؟ (5) مع القرضاوي: هل لازم نجاهد في فلسطين؟ (6) مع القرضاوي: انتشار الإسلام بالسيف.. قول مردود عليه (7) هل تجاهد المرأة مثل الرجل؟ (8) الجهاد السلميّ في ظل سلطان جائر (9) الصح والغلط في مفهوم الجهاد المسلح (10) لا تستطيع الجهاد المسلح؟.. يمكنك الجهاد عبر الإنترنت (11)