وكانت وظيفتي الجلوس وكانت مهمته الوقوف، أخبرني صاحب العمل أو المسئول عنه: أجلس مكانك ولا تتحرك وحين يأتي احدهم قف من أجله وابتسم في وجهه.... أتساءل لم قبلت هذه الوظيفة؟ وأجيب ولماذا أرفضها.. بالتأكيد هي أفضل من غيرها. أضحك حين أتذكر أحدهم يسألني متى ستتزوج؟ أتزوج.... مثلي لا يصح له، بل لا يحق له أن تأتيه الفكرة من الأساس، أساسا لا أستطيع الإنفاق على نفسي وأنا نصف فرد لأنني تخليت عن نصف رغباتي في الحياة.. رغباتى!!! لا لا لا لا بل حاجياتي وأساسيات الحياة أكتفي بوجبة واحدة في اليوم، وملابسي التي أرتديها للعمل أقوم بخلعها وأنام.. هذه كلها ثيابي، ثم يسألني الحمقى متى الزواج؟ وكيف أنفق على زوجتي التى لن أتزوجها!! والتى لو تزوجتها لصارت طليقتى ولطالبتنى بالنفقة!! ما يخفف عنى ملل الجلوس، أن بجوار العمل شاب لا هم له غير أن يجلس في غرفته مستمعا للأغانى والتى أسمع صوتها واضحا. مع أن صوتها عالي للغاية وبرغم ذوقه المتناقض في سماعه للأغاني أحيانا أجده يسمع منير وأحيانا أخرى أنا بكره إسرائيل وأحيانا أخرى أجده يسمع الست لما...لما لما، إلا أن هذا ما يخفف من ملل جلستي لأن وظيفتى حارس عقار غير أن الحقيقة هي أن جلستي منظر، فكل ما يهم ألا أتحرك من مكاني وأن أظل جالسا فلا أنا حارس ولا يحزنون. وليتنى منظر طبيعي بل أنا منظر باهت نصفه الأعلى أزرق والنصف الأسفل أسود وما هو إلا منظر يثير الكآبة. وأنا عائد لمنزلى، أقف أمام فاترينته كثيرا أنظر إلى الثياب التى يرتديها المانيكان، هذا المانيكان بالذات ذوقه رفيع فى اختيار ثيابه، لا يرتدى طاقم متشابه يومين متتاليين. أقارن بينه وبين نفسى. وكانت وظيفتى الجلوس وكانت مهمته الوقوف، أخبرني صاحب العمل أو المسئول عنه، أجلس مكانك ولا تتحرك وحين يأتي أحدهم قف من أجله وابتسم في وجهه.
تصيبني سعادة لا أعلم مصدرها ربما لأنني أحسن حالا من هذا المانيكان على الأقل أنا حر فى تصرفاتي أما هو فكل يوم تأتى إحداهن لتغير له ثيابه تحرك يده ورجله وقدمه ولا أدرى كيف يشعر وهو عاري أمامها ألا يصيبه الخجل!! أتساءل لم قبلت هذه الوظيفة؟ وأجيب ولماذا أرفضها.. بالتأكيد هى أفضل من غيرها نعم بطنى تدلى امامى مع أن جسدى رفيع بالأساس لكن عاداتى فى الأكل وجلستى الطويلة سبب فى أن يتكون لدى كرش بهذا الشكل. نعم جسده مفتول العضلات يبدو كجان تعشقه الفتيات وأكثر وسامة منى لكنه حبيس فاترينته لا يغادرها وكيف يغادرها؟ ولماذا يغادرها؟ مثله يشاهده الناس. أتساءل لم قبلت هذه الوظيفة؟ وأجيب ولماذا أرفضها.. بالتأكيد هى أفضل من غيرها.
وكانت وظيفتى الجلوس وكانت مهمته الوقوف، أخبرنى صاحب العمل أو المسئول عنه، أجلس مكانك ولا تتحرك وحين يأتى احدهم قف من أجله وابتسم فى وجهه..
لكنى رثيت بشدة لحالى حين علمت أن المانيكان متزوج ولديه طفل أما كيف حدث ذلك؟ ببساطة بعد أن يغلق المحل كان يغادر فاترينته متجها إلى فاترينة بجواره، المانيكان بها ترتدى من ثياب النوم أقصرها وألمعها وأكثرها غلاء.. نشأت بينهما علاقة حب تطورت إلى ما يقرب من الزواج. نشأ على أثرها هذا المانيكان الصغير.. فى أيام الأجازات كان يخرج وزوجته وابنه من الباب الخلفي للمحل يتحركون بالشارع يشاهدون الناس فى منازلهم وعجبت بشدة حين أتى للعقار الذي أحرسه نظر ناحيتي شذرا ولم تلتفت زوجته ناحيتي وخفف عنى صدمتي ابتسامة مانيكانه الصغير.
محمد بحر التعليق: في معظم قصص محمد السابقة برزت خاصية مميزة لعالمه الذي يمزج بين الواقع والأسطورة. لكنه في كل قصة يفاجئنا بتجديد موضوعه. في هذه القصة إيغال في الواقع المؤلم لشاب يعمل بواباً يسرد عبر المونولوج الداخلي تفصيلات قليلة عن حياته لكنها كافية لأن ندرك أزمته التي هي أزمة أجيال من الشباب الفقراء، ومن ثم فهو راض عن عمل لن يجد أفضل منه، وإن كان لا يكفي. الطريف في القصة هي المقارنة التي يقيمها بين حاله وحال المانيكان الذي يحييه خياله ليحقق ما يعجز هو الإنسان الحي عن تحقيقه. اللغة جميلة فيما عدا بعض الأخطاء. (وهنا أشدد على الكاتب: لا يجوز لكاتب يملك هذه الطاقة الإبداعية أن يخطئ في اللغة). كما أن البناء محكم وإن كنت لا أحبذ تكرار جملة: "قبلت هذه الوظيفة ولماذا أرفضها....". د. سيد البحراوي أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب، جامعة القاهرة