فشل المفاوضات مع دول حوض النيل درس جديد لمصر، يُذكّرها بأنها يجب أن تأخذ متطلبات أمنها القومي على محمل الجد، وأن "الفهلوة" لا يُمكن أن تكون بديلاً عن الاستراتيجية. (1) الأمر ليس هيناً، ولا يحتمل التراخي أو الهزل، فموضوعه "مياه النيل" التي تعتمد عليها مصر بنسبة 95٪ وحين يكون الأمر كذلك، فهو يعني أننا نتحدّث عن مصدر الحياة في هذا البلد منذ أن دبّت فيه الحياة.
وقد جسّدت الآثار المصرية هذه الحقيقة في لوحة صوّرت مركباً ضمّ الفرعون متحداً مع رمز النيل "حابي" مع رمز العدالة "ماعت"، واعتبر الباحثون أن هذه اللوحة تمثّل خريطة مصر منذ فجر التاريخ، التي تقوم على الأضلاع الثلاثة: الحاكم (الفرعون)، وحابي (النيل)، وماعت (العدل).
هذا الذي وعاه الفراعنة منذ آلاف السنين صرنا نناضل من أجل تثبيته والحفاظ عليه في القرن الحادي والعشرين؛ إذ في حين ظننا أن أمر الفرعون وقضية ماعت (العدل) يحتلان رأس شواغلنا الوطنية، فإننا فوجئنا بأن ضلع "حابي" في خطر، صحيح أن الخطر ليس حالاً ولا داهماً، ولكن مقدّماته لا تخطئها عين.
ذلك أن حصة مصر التاريخية من مياه النيل المستقرة منذ عام 1929 وبالاتفاق مع السودان عام 1950 (55 مليار متر مكعب) تتعرّض الآن إلى النقد والمراجعة، وفي الوقت الذي أدركت فيه مصر أنها بحاجة لأن تُضيف إلى حصتها 11 ملياراً أخرى؛ بسبب الزيادة الكبيرة في عدد السكان ومعدلات الاستهلاك، إذا بها تفاجأ بأن عليها أن تخوض معركة طويلة لكي تحافظ على حصتها الأصلية.
الموقف بدأ في التغيّر ابتداءً من عام 1995، حين ارتفعت الأصوات في دول المنبع داعية إلى إعادة النظر في توزيع حصص مياه النيل، استناداً إلى ثلاثة عوامل؛ العامل الأول: أن دول المنبع اعتبرت أن تلك المياه ملك لها، ومن ثم فلها الحق ليس فقط في حجزها وراء السدود، ولكن أيضاً في بيعها إلى مصر والسودان، العامل الثاني: أن بعض تلك الدول -كينيا وتنزانيا مثلاً- ذكرت أن الحصص ينبغي أن يعاد النظر فيها بما يلبّي تطوّر احتياجاتها التنموية، خصوصاً في التحوّل من الزراعة الموسمية إلى الزراعة الدائمة.
العامل الثالث: أن تلك الدول احتجت بأن اتفاقية عام 1929 وقّعتها مصر مع سلطة الاحتلال البريطاني، التي لم تراعِ احتياجات "مستعمراتها"، وبعدما نالت تلك المستعمرات استقلالها فإن الأمر اختلف، بما يسوغ إعادة النظر في الاتفاقات التي عقدها البريطانيون.
هذه الحجج لم تكن بريئة تماماً، فالدعوة إلى إعادة توزيع الحصص بصورة "أكثر عدالة" تثير الانتباه. إذ في حين تعتمد مصر في احتياجاتها المائية على مياه النيل بنسبة 95٪، فإن نسبة اعتماد إثيوبيا التي تقود الحملة حوالي 1٪، وكينيا 2٪، وتنزانيا 3٪، والكونغو 1٪، وبوروندي 5٪، والسودان 15٪.
ذلك أن كثافة هطول الأمطار على تلك البلدان تُقلل من أهمية مياه النيل بالنسبة لها. الأمر الآخر المهم أن اتفاقات المرحلة الاستعمارية التي يُراد إعادة النظر فيها، بما فيها اتفاق توزيع حصص المياه، هي ذاتها التي أنشأت تلك الدول، وإعادة النظر فيها من شأنها أن تطلق عنان الفوضى ليس في دول حوض النيل فحسب، وإنما في إفريقيا كلها.
يُضاف إلى ما سبق أن ثمة قواعد عامة لإدارة مياه الأنهار العابرة للدول، تنصّ على إقرار مبدأ الحقوق التاريخية المكتسبة في الموارد المائية، وتعتبر أن مياه الأنهار مورد طبيعي مشترك لا يخضع لسيادة دولة بذاتها. وهذه القواعد أقرّها معهد "القانون الدولي" في عام 1961.
(2) في الجولة التفاوضية الأخيرة التي عُقدت في شرم الشيخ، وانتهت يوم الأربعاء الماضي (14/4) كان واضحاً أن دول حوض النيل السبع (المنبع) تكتلت ضد مصر والسودان (دولتَي المصب). إذ رفضت المقترحات المصرية السودانية لاتفاقية التعاون فيما بينهما. خصوصاً ثلاثة بنود أصرّ عليها البلدان تقضي بما يلي: ضرورة قيام دول منابع النيل بإخطار الدولتين مسبقاً قبل تنفيذ مشروعات على أعالي النهر قد تُؤثّر على حصصهما في المياه - استمرار العمل بالاتفاقيات السابقة التي توزّع حصص المياه باعتبارها حقوقاً تاريخية - في حالة إنشاء مفوضية لدول حوض النيل، فإن التصويت فيها إما أن يتم بالإجماع وإما بالأغلبية التي يشترط فيها موافقة دولتي المصب.
مؤتمر شرم الشيخ كان بمثابة الجولة الثالثة للمناقشات مع دول حوض النيل، الأولى كانت في كينشاسا بالكونغو (مايو 2009)، والثانية كانت في الإسكندرية (يوليو 2009). وحسب البيان الذي أصدرته دول الحوض السبع منفردة فإن لقاء الإسكندرية هو آخر اجتماع لبحث الموضوع، وإذا سارت الأمور على النحو الذي حدده البيان ولم يتدخل الرؤساء لتغيير موقف الوزراء، فإن تلك الدول ستوقّع الاتفاقية خلال عام، دون أن تشارك فيها مصر أو السودان، وهذه الخطوة إذا تمت فإنها ستكون بمثابة أول شقاق علني بين دول حوض النيل؛ منبعه ومصبّه، والمرة الأولى التي تتحدّى فيها تلك الدول مصر وتتصرّف على نحو يفتح الباب لاحتمال المساس مستقبلاً بحصتها في المياه، ومن ثم الإضرار بأمنها القومي، كما أن هذا الشقاق سوف يُكرّس المواجهة بين الدول العربية في القارة والدول الإفريقية غير العربية.
(3) مصر تدفع الآن ثمن غيابها عن إفريقيا.. هذه المقولة لم يختلف عليها أحد من الخبراء الذين حدّثتهم في الموضوع. ذلك أن إفريقيا حين كانت إحدى دوائر الانتماء في المرحلة الناصرية، كان لها شأن مختلف تماماً، فقد كان هناك مكتب يعني بأمرها في رئاسة الجمهورية، تولّى المسئولية عنه السيد محمد فايق، إلى جانب المكاتب الأخرى التي خُصصت لمتابعة الشئون العربية والآسيوية والأوروبية، وكانت القاهرة مفتوحة الذراعين لحركات التحرر في مختلف الدول الإفريقية.
في حين كانت شركة النصر للتصدير والاستيراد هي غطاء أنشطة المخابرات المصرية في دول القارة إلى جانب أنشطتها الأخرى. كما كانت مدينة البعوث الإسلامية والجامعات المصرية تستقبل باستمرار أعداداً كبيرة من أبناء تلك الدول. وفي التركيز على دول منابع النيل فإن الرئيس عبد الناصر أقام علاقة خاصة مع الإمبراطور هيلاسلاسي، وكان يحضر اجتماعاتهما في القاهرة الأنبا كيرلس بطريرك الأقباط الأرثوذكس، الذي كانت تتبعه كنيسة الحبشة.
لكن هذه الصفحة طُويت بمضي الوقت بعد رحيل عبد الناصر، وجرى تفكيك كل الجسور التي تم بناؤها مع مختلف دول القارة. حتى الكنيسة الإثيوبية انفصلت عن الكنيسة المصرية. وتعزز وتعمّق التباعد حين جرت محاولة اغتيال الرئيس مبارك أثناء توجهه للمشاركة في القمة الإفريقية ب"أديس أبابا" عام 1995. وهو العام الذي لم تنتكس فيه علاقة مصر بالدول الإفريقية فحسب، ولكن بدا أيضاً أن التراجع تحوّل إلى ما يشبه الخصومة التي سقطت بمقتضاها إفريقيا من أولويات أجندة السياسة الخارجية المصرية.
(4) حين كانت مصر تخرج بصورة تدريجية من إفريقيا، كانت إسرائيل والولايات المتحدة وغيرهما من الدول صاحبة المصلحة تزحف على القارة وتثبّت أقدامها في أرجائها. ومن المفارقات ذات الدلالة أن مطالبة دول المنبع بإعادة النظر في حصص مياه النيل بدأت في عام 1995، كما سبقت الإشارة.
وهو ذات العام الذي وقّعت فيه محاولة الاعتداء على الرئيس مبارك، وأحدثت ما يُشبه القطيعة في العلاقات المصرية - الإفريقية، وهو ما تجلّى واضحاً في غياب مصر عن مؤتمرات القمة الإفريقية، الأمر الذي هيّأ الفرصة المواتية للآخرين ليس فقط لكي يتمددوا ويتمكّنوا، ولكن أيضاً لكي يكيدوا لمصر ويسمموا العلاقات معها.
من الملاحظات المهمة في هذا السياق أن الدول التي تزعمت تلك الدعوة، هي أكثر دول القارة ارتباطاً بإسرائيل وانفتاحاً عليها -إثيوبيا وكينيا وأوغندا- وهو ما يُعزز الشكوك في دوافع إطلاق ما سمي بالاتفاقية الإطارية للتعاون بين دول حوض وادي النيل.
هذه الخلفية عبّر عنها الدكتور محمد أبو زيد -وزير الري والموارد المائية السابق- حين صرّح في شهر فبراير من العام الماضي بأن ثمة مخططاً إسرائيلياً أمريكياً للضغط على مصر، لإمداد تل أبيب بالمياه من خلال إثارة موضوع "تدويل الأنهار".
هذا الكلام صحيح مائة في المائة، كما أنه ليست فيه أية مفاجأة؛ فالوثائق الإسرائيلية المنشورة تجمع على أن استراتيجية الدولة العبرية منذ أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات اتجهت إلى محاولة تطويق العالم العربي والانقضاض عليه من الخلف، من خلال ما أطلق عليه بن جوريون رئيس الوزراء آنذاك سياسة "شد الأطراف"، التي ركّزت على اختراق ثلاث من دول الجوار؛ هي: إثيوبيا وتركيا وإيران.
وكان الدخول إلى القارة الإفريقية والتركيز على دول حوض نهر النيل -وعلى رأسها إثيوبيا- للضغط على مصر جزءاً من تلك الاستراتيجية، وقد فصلت في هذه القصة دراسة عميد الموساد المتقاعد موشيه فرجي "إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان" التي قدّمت إلى مركز ديان للأبحاث في تل أبيب، (نشرت في عام 2003 وسبق أن استشهدت بمضمونها المثير).
لا مفاجأة فيما حدث إذن، ذلك أن الوجود الإسرائيلي المدعوم بالسياسة الأمريكية تم تحت أعين الجميع ولم يكن فيه سر. ودراسة العميد "فرجي" تحدّثت عن انتشار خمسة آلاف خبير إسرائيلي في دول القارة في ذلك الوقت المبكر. وهؤلاء نشطوا في مختلف المجالات العسكرية والاقتصادية من تدريب للجيوش والشرطة إلى إقامة المزارع وتصدير الزهور، وما كانت تقوم به شركة النصر للتصدير والاستيراد المصرية في الستينيات والسبعينيات تصدّت له وضاعفت من مجالاته الدولة العبرية بهمة لم تعرف الفتور أو الانقطاع.
إزاء ذلك، فبوسعنا أن نقول إن الإسرائيليين زرعوا وحصدوا، أما نحن فقد زرعنا حقاً، ولكننا إما تركنا الزرع بلا رعاية فجف ومات، وإما أننا اقتلعناه بالإهمال واللامبالاة. صحيح أننا حاولنا أن نعوض الغياب بأشكال مختلفة من الحضور خلال السنوات الأخيرة، إلا أن ذلك كان من قبيل محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه في الوقت الإضافي أو بدل الضائع.
لقد قام بعض المسئولين المصريين -في مقدّمتهم الدكتور أحمد نظيف رئيس مجلس الوزراء- بزيارات لإثيوبيا وبعض دول الحوض، كما بذلت مصر بعض الجهود التي استهدفت تحقيق التعاون الذي يقنع تلك الدول بأن لها مصلحة في التوافق مع مصر، ودُعي رجال الأعمال المصريون للإسهام في تلك الجهود. وتلك محاولات لا بأس بها لكنها جاءت متأخّرة كثيراً، ثم إنها كانت دون ما تحتاجه حقاً تلك الدول. وأهم من ذلك أنها لم تكن تعبيراً عن استراتيجية، وإنما كانت من قبيل "الفهلوة" المصرية التي تعول على الصدف السعيدة بأكثر ما تراهن على التخطيط بعيد المدى.
لقد قرأت تصريحاً لوزير الري المصري تحدّث فيه عن مضاعفة اعتماد بند التعاون مع دول حوض النيل في ميزانية العام الجديد؛ لكي تُصبح 150 مليون جنيه (حوالي 27 مليون دولار)، وقرأت في اليوم التالي أن النرويج قدّمت معونة بقيمة 414.2 مليون دولار إلى إثيوبيا؛ لكي تقيم سدًّا جديداً عند منابع النيل. ووجدت أن المقارنة تجسّد المفارقة؛ لأنني لاحظت أن ما قُدّم إلى دولة واحدة يُعادل 15 مرة ما تعتزم مصر تقديمه إلى دول حوض النيل كلها في الميزانية الجديدة.
لو أننا وجّهنا ميزانية التليفزيون التي يخصصها كل عام لمسلسلات رمضان وفوازيره لكي تمول مساعدات مصر ومشروعاتها في دول حوض النيل؛ لتجنبنا المأزق الذي نواجهه الآن، ولخففنا الكثير من أحزان "حابي" وقلقه على المستقبل.