التقي في القاهرة في الأسبوع الماضي وزراء المياه والمصادر المائية في عدد من الدول الافريقية المشاركة في مياه النيل، وكانت القاهرة قد شهدت قبل ذلك أول مؤتمر إقليمي حول المياه في العالم العربي شاركت فيه أكثر من عشرين دولة عربية إضافة إلي ممثلين عن المنظمات الإقليمية والدولية المعنية بقضية المياه. وكانت القضية المطروحة وهي الأمن الغذائي قد تعرضت للضغوط المتزايدة التي تتعرض لها مصر والدول العربية النهرية من جانب دول الجوار الجغرافي، كما سعي المؤتمر إلي وضع استراتيجية عربية شاملة لمواجهة الأخطار المتعلقة بنقص الموارد المائية في ضوء تعاظم الاحتياجات القومية للمياه. وجاء في تقرير الجامعة العربية الذي نوقش في المؤتمر أن الأمن المائي العربي يعتبر إحدي الركائز الأساسية في الأمن القومي العربي، وان هذه القضية ستتزايد أهميتها في المستقبل خاصة أن موارد المياه في العالم العربي محدودة، كما أن الأنهار العربية الرئيسية تنبع من بلدان أجنبية حيث إن البلدان العربية هي في أغلبها بلدان مصبات الأنهار، فالنيل شريان الحياة في مصر والسودان - وادي النيل - ويمضي في الأراضي المصرية لأكثر من 1200 كيلو متر متدفقا من الجنوب للشمال حيث يصب في المتوسط وينبع من بحيرات وتلال وجبال تقع في اثيوبيا وأوغندا وتنزانيا والكونغو، كذلك نهر الفرات الذي يتشكل من روافد صغيرة في هضبة الأناضول ثم يجري في الأراضي السورية والعراقية، والليطاني اللبناني الذي تقع منابعه في الأراضي الإسرائيلية الحالية والفلسطينية سابقا. وكان القرار الذي اتخذ بانشاء مجلس عربي للمياه متواكبا مع تزايد أهمية المياه في العقدين القادمين، وتحسبا لتوقعات واحتمالات أن يؤدي النزاع أو الصراع حول المياه إلي حروب ونزاعات إقليمية خطرة بحيث يجب العمل علي تجنبها ورسم سياسات مائية علي المدي البعيد. وكانت القمة الافريقية الطارئة التي عقدت في مدينة سرت الليبية منذ عدة سنوات، وكذلك القمة الافريقية الأخيرة قد اتخذت قرارا بضرورة تشكيل صندوق افريقي للتنمية الزراعية والموارد المائية ودراسة مشاكل المياه في القارة السمراء. وقد يبدو غريبا ومثيرا أن افريقيا الغنية بالأنهار والبحيرات والأمطار والأراضي الخصبة الصالحة للزراعة مازالت تستورد أكثر من 60% من احتياجاتها الغذائية بل ويعاني عدد من بلدانها الجفاف والقحط. ويعني ذلك أن مشكلة المياه لا تقتصر علي العالم العربي وحدة أو منطقة الشرق الأوسط بل وتمتد إلي افريقيا نفسها وهو الأمر الذي أصبح مطروحا علي جدول أعمال أي قمة افريقية أو عربية وهو الأمر الذي يفرض أيضا تعاونا واسعا وضروريا بين الاقليم العربي بما فيه الدول الآسيوية والدول الافريقية مع القارة السمراء جنوب الصحراء ولصالح الطرفين. وبين الحين والآخر تثور أزمات بين بعض الدول العربية النهرية والدول غير العربية المشاركة في النهر مثلما جري منذ عامين بين العراق وسوريا من ناحية وبين تركيا حين قامت الأخيرة ببناء بعض السدود والمشروعات في هضبة الأناضول حيث ينبع نهر الفرات مما أدي إلي نقص ملموس في كميات المياه المتدفقة إلي الأراضي السورية والعراقية. وقد استطاعت مصر أن تلعب دورا مهما في التهدئة واحتواء الموقف بين سوريا وتركيا، ساعد علي ذلك المصلحة المشتركة لدول مصبات الأنهار ومنابعها في زيادة الموارد المائية بشكل عام والاستثمار الأمثل لكميات المياه المطروحة كما تساعد علي احتواء الموقف كذلك التجربة الغنية والواسعة لمصر في معالجة مثل هذه القضايا الحياتية الحساسة. بين الحين والآخر تثير بعض الأوساط في بعض الدول الافريقية المطلة علي منابع النيل سواء في بحيرة فكتوريا في غانا أو بحيرة تانا في اثيوبيا ما نسميه بحقها في المياه التي تجري إلي الشمال والمطالبة بإعادة النظر في الاتفاقيات القديمة التي تحكم توزيع مياه النيل. ونهر النيل مثله مثل الأنهار الدولية الكبر - الدانوب والراين والكنغو والفرات - أي تلك التي تغطي في مجراها من المنبع إلي المصب دولا مختلفة، تحكمه عدة اتفاقيات دولية منها اتفاقية 1902 التي عقدتها السلطات المصرية والبريطانية مع اثيوبيا ثم اتفاقية 1929 التي قامت بتنظيم حصص مياه النيل مع دول افريقيا المطلة علي بحيرة فيكتوريا وألبرت وبعض الروافد الصغيرة لنهر النيل. وتنص اتفاقية 1929 علي أن نهر النيل وحدة مائية متكاملة تلزم دول الحوض والمجري بالامتناع عن القيام بأعمال تلحق الضرر بدول المصب أو المجري، كما تعطي الاتفاقية لدولة المصب "مصر" حق الاستشارة قبل أن تقوم أي دولة بمشروعات خاصة علي مصادر مياه النيل وفروعه. وكان من الطبيعي أن تقوم مصر وقبل انشاء السد العالي بالتفاوض مع دول المجري والمصب وأبرمت اتفاقية 1959 مع كل من اثيوبيا والسودان حول توزيع المياه المتدفقة واضعا في الاعتبار مشروع السد العالي وبحيرة السد التي قامت علي جزء من الأراضي المصرية والسودانية. ولكن السنوات الأخيرة شهدت اعتراضات من قوي سياسية في كينيا وتنزانيا وأوغندة وأيضا في اثيوبيا حول الاتفاقيات القديمة وقد أمكن للخبرة المصرية الطويلة في هذا الشأن احتواء هذه الخلافات ونزع فتيل الأزمات وذلك بالتعاون الواسع مع دول المنبع للعمل علي زيادة كمية المياه بشكل عام في صالح كل دول المنبع والمجري والمصب. ويقدر الخبراء بأن مياه الأمطار التي تسقط علي منابع النيل تقدر ما بين 1000 و1600 مليار متر مكعب ولا يصل منها إلي السودان أكثر من 80 مليار متر مكعب، يحصل منها السودان علي 18 مليار متر مكعب ومن هنا كان الاقتراح المصري هو تعاون دول حوض النيل علي إقامة المشروعات التي تحد من الفاقد الكبير في المياه والذي يصل إلي أكثر من 70% من المياه المتدفقة وإعادة توزيع هذا الفاقد لصالح دول المنبع، شريطة أن يكون تبادل المياه والاستثمار بين دول حوض النيل دون تسريب لأي قدر من المياه تحت أي دعوي لدول خارج حوض النيل. ولا شك أن الارتباط النهري والمصيري والحيوي الذي يربط بين بعض الدول العربية النهرية ودولا أخري غير عربية مثلما هو الحال في نهر النيل ونهر الفرات ونهر دجلة هو ارتباط يتعلق بقضية تمس الأمن القومي المصري والعربي. ومع التغيرات التي تجري علي الساحة الدولية والعربية وانعكاس ذلك علي المنطقة العربية بشكل خاص والافريقية بشكل عام يصبح مطلوبا بل وملحا البحث عن صيغ ثابتة ومتوازنة منطلقة من لغة المصالح المشتركة ليس فقط بين الدول العربية النهرية والدول غير العربية والمشاركة في النهر الواحد بل وبين التجمع العربي والتجمع الإفريقي الأشمل. فالمياه هي مصدر الحياة والنماء والتطور والطاقة.. أليس كذلك؟