شغلني سؤال يحاصرنا دائماً: هل يمكن النجاح بدون تقديم تنازلات؟ والتقيت بالكثير ممن يطلق عليهم "الناجحون" في مصر وغيرها، وسألتهم هذا السؤال؛ فأجابوا ونشرت بعض الإجابات أو ما سمحوا به فقط.. ولا أنسى أحد كبار الناجحين عندما لمح حماسي، وأنا في بدايات الشباب، عندما طرحت عليه هذا السؤال، فردّ عليّ بما يراه واقعية ونضجاً!! قال: يختلف الأمر كثيراً بين أن تكوني مسئولة عن أسرة أو أن تحصري مسئوليتك على نفسك فقط؛ فقبل الزواج كنت مستعداً لرفض أي تنازلات، بل وللنوم في الشارع؛ ولكن بعد الزواج ومجيء الأبناء هناك مصاريف للطعام وللمدارس و.. و... فاندفعت قائلة: لا شيء يبرر التنازلات.. ومضت الأعوام وندمت على اندفاعي؛ فلم أكن أريد إيلامه بهذه الحقيقة التي ازددت يقيناً بها مع مرور كل ثانية من العمر؛ فلا يمكن تبرير خيانة أنفسنا وتقديم التنازلات لا باسم إرضاء الأهل بمميزات مادية على حساب ما نراه ضرورياً لاحترام أنفسنا، ولا ليتمتع الأبناء برفاهية مادية؛ بينما نعجز نحن عن الفوز بضرورة التصالح مع النفس، وبأننا لم نقدّم أغلى ما عندنا للفوز بفُتات رخيص. من أجل ملاليم!! وأتذكر ما قاله مبدع راحل لزميله الذي قدّم تنازلات: "لقد بعت نفسك من أجل ملاليم" على مرأى من الناس؛ فأصيب بذبحة صدرية على الفور.. وهو ما يؤكد -رغم رفضي للقسوة بالطبع- على شعوره بالتمزق لتنازلاته، وكان جرحه مفتوحاً؛ لذا فما إن تم الضغط عليه -بقسوة أكرهها خاصة أنها أمام الناس- حتى انفجر النزيف.. ولكن ما هي التنازلات؟ لعل أبسط تعريف لها أن نتخلى بكامل إرادتنا عما نراه ضرورياً من معتقداتنا وأخلاقنا -بل وأحلامنا المشروعة في العيش مرفوعي الرأس- ليس كذباً وادعاءً أمام الناس؛ ولكن بصدق مع أنفسنا، وصَدَق المسيح عليه السلام وهو القائل: ماذا تربح لو كسبت الدنيا وخسرت نفسك؟؟ ليوهموا أنفسهم!! ويتم تزيين التنازلات بالشطارة تارة وبالفهلوة مرات، والأسوأ عندما يحاولون إخفاء قبحها اللعين بالواقعية، وأتذكر المثل البشع: "اليد اللي ما تقدرش تقطعها بوسها".. وهو ما يقودنا إلى التنازل الشائع وهو النفاق، وللأسف يحقق به البعض جزءاً لا بأس به من طموحاتهم المادية والعملية، ورأيت بنفسي من تبوءوا المناصب العالية بسبب النفاق، وبالطبع طالبوا من خضع لرئاستهم فيما بعد بالنفاق المتواصل، ربما ليوهموا أنفسهم بأن هذا أمر طبيعي. إغلاق أبواب التراجع!! ونتوقف عند كتابة التقارير عن الزملاء سواء للأجهزة المسئولة أو للقيادات. فقد أخبرني شاب سافر رئيسه للخارج لبضعة أسابيع، بضيقه من إصرار الرئيس معرفة التفاصيل المملة لما يجري من الزملاء عامة؛ وخاصة عند سفره، وقوله له في نهاية المكالمة الطويلة: هذا كل ما حدث ولا تضطرني للتأليف!! وقد أزعجني كثيراً إعلانه ذلك وضحكه، وتنبّهت لمحاولته إقناع نفسه بأنه لا يفعل شيئاً يخجل منه، بدليل حديثَه عنه للآخرين، وتناسى حديث رسولنا الحبيب محمد صلوات الله وسلامه عليه: "كل أمتي معافى إلا المجاهرون". ربما لأنهم يحرِّضون غيرهم عليها، وأيضاً لا يعترفون بكونها معصية؛ فيغلقون أبواب التوبة والتراجع أمام أنفسهم. الأنوثة والدموع!! ومن التنازلات اللعينة لجوء بعض بنات حواء إلى استخدام السلاح الأنثوي والدلال؛ للفوز بما لا يحقّ لهنّ، أو سلاح الدموع والشكوى الدائمة لابتزاز الرؤساء وحصارهم حتى يلقوا إليهنّ ما يرِدْنَه للإفلات من كل هذا الحصار. وأعرف فتاة حققت أحلامها في مجالها بجمالها وتساهلها مع من يساعدونها في النجاح، وقالت: لا يأخذ الرجل أكثر مما تريد الفتاة منحه، وهي صادقة في ذلك؛ ولكنها تناست أن الجميع يرون ما تفعله حتى لو كانت في أبواب مغلقة؛ فالأخلاق كالزهور لها روائح، والعكس صحيح أيضاً. وأعرف رجلاً عمل جاسوساً على زملائه لسنوات طوال، ونجح في الحصول على مركز مهمّ بعد ذلك، وعلمت أنه يعاني من اضطرابات ومتاعب صحّيّة قاسية، وكل فترة يذهب لإجراء فحوصات طبية، وتكون الإجابة واحدة: لا يوجد مرض عضوي فمشكلتك نفسية. راقب عقلك!! ويبدأ التنازل في العقل عندما نقوم بتغذية احتياجنا الشديد لتحقيق طموحاتنا المشروعة بأسهل وأسرع الطرق، ونبالغ في ذلك، ونتوهم أننا لن نستطيع الحياة بدونها؛ لنصل إلى القناعة بأننا نستحق ذلك، وأن الغاية تبرر الوسيلة، وأننا سنتنازل فقط مؤقتاً حتى نحصل على ما يكفينا من نجاحات. ونتناسى -بكامل إرادتنا- أن النجاح سلسلة لن تنتهي إلا بانتهاء الحياة، وبأن الوصول إلى قاع التنازلات أسهل من التماسك بعد تقديمها، وأن تزيين التنازل وتبريره أحياناً بأن الجميع يفعلون ذلك.. وهو كذب، وأتحدى إذا تناول جميع الناس الطعام المسموم أن نختار نحن ذلك. ولنتذكر حديث رسولنا الحبيب محمد صلوات الله وسلامه عليه: "لا يكن أحدكم إمّعة، يقول: إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم". للمرونة شروط!! توجد فوارق كثيرة بين التنازلات والمرونة؛ فالأولى مرفوضة وإن تغيّرت أشكالها وألوانها، وروائحها تكشف عنها؛ فالتنازل هو ما نكْره أن نفعله، أما المرونة؛ فضرورية في مشوار الحياة؛ بشرط ألا تتعارض مع الكرامة، واحترام النفس، أو فعل ما يحرّمه الدين، وهذا لا يعني التشدد بالطبع. وسألت شاباً في العشرينيات عن التنازلات في عمله المرموق؛ فتكلم بحماس عمن يقومون بتدليل ذوي الوساطات والجواسيس والفتيات العابثات؛ بينما يتفانى هو في عمله، وقال: "أفعل ذلك من أجل نفسي، ولا يهمني ما يحصلون عليه من مزايا مادية ومعنوية يحصلون عليها؛ لأنهم يقدمون أثماناً أغلى، وفي الوقت نفسه أحاول انتزاع أكبر قدر ممكن من المزايا بطرقي المحترمة". متعة مؤقتة! فالمهم كيفية التواجد وليس الكم؛ فالتواجد في قلب النجاح بما يليق بي دينياً ودنيوياً، ويضيف إليّ -وإن قلّ- بعد السعي بجدّيّة بالطبع أفضل من امتهان النفس دينياً ودنيوياً بنجاح زائف زاعق الصوت، ويكون مثل الطبل، صوته عالٍ؛ لأنه فارغ من الداخل. فلندخر طاقاتنا ولا نبعثرها في التأفف ممن يعيشون بالتنازلات الكريهة، ونوفّرها لتحسين إمكاناتنا ومضاعفة قدراتنا. فكل من اختار التنازلات مسئول دينياً ودنيوياً عما يفعله، وأقسم أنه لا يستمتع بنجاحه، ويكون مثل من يتعاطى الخمر يشعر بمتعة مؤقتة ليلاً، والشعور بالصداع والتعب صباحاً. عزة المؤمن!! ويقاس النجاح بحجم التنازلات التي قُدّمت للفوز به؛ فمن يتنازل عن علاقته بربه، وعن مبادئه، وأيضاً عن صحته أو أسرته لا يعدّ ناجحاً. فالناجح وحده هو الذي يصحو في الصباح يبتسم؛ فالخالق -عز وجل- كرّمه ولا يليق به إهانة نفسه لمخلوق، والرحمن يراه؛ فيخجل هو أن يراه الرحمن بصورة غير كريمة، ويسعى في الحياة بعزة المؤمن؛ مما يكسبه قوة رائعة، ويتنفس الرضا والسعادة بكل ما يحققه -وإن قلّ- ليتضاعف رصيده تدريجياً، ويعرف أن الحياة ستضيع منه في لحظة، وأن النجاح الحقيقي هو الذي ينير حياته وقبره، والعكس صحيح أيضاً.
اقرأ أيضاً.. - استمتع بنجاحك (10): إزاي تعرف إنك بدأت الفشل؟!!