دائمًا يوجد ذلك"الآخر"، حتى وإن لم تحبه فأنت ملزم بتَقَبّل وجوده في الحياة طالما أنه لا يؤذيك. هذا أمر يعرفه الجميع.. ولكن.. هتلر والنازيين كان لهم رأي آخر عن النازية -أبرز مفاسد القرن العشرين- نتحدث.. لن نتحدث عن "التوسع النازي"، أو "نزعة احتلال العالم" فقد كانت نزعة موجودة بنفس الدرجة لدى كل الدول الاستعمارية؛ لكننا سنتحدث عن تلك النزعة العنصرية في الفكر النازي، والتي كانت وقودًا لمختلف الدعاوى العنصرية البغيضة التالية لها عبر العقود التالية وحتى يومنا هذا!
النازية في رَحِم أوروبا
قبل أن نتحدث عن مثالب النازية علينا أن ندرك أمرًا هامًا، هو أن الفكر النازي هو الابن الطبيعي للفكر الأوروبي فيما بعد الثورة الصناعية وفترة توسع الاستعمار الأوروبي في آسيا وإفريقيا منذ منتصف القرن التاسع عشر والثورة العلمية المصاحبة لمطلع القرن العشرين. ففي تلك الفترة كان الفكر الأوروبي قد أصيب بتغييرات كبيرة تركز أغلبها على ما يخص تعريف "الإنسان"، فبعد أن كان هذا الأخير غاية في حَد ذاته للرعاية والحماية والتنمية، أصبح -بالنسبة لرجال الحكم والمال- مجرد "طاقة بشرية" أو "مورد بشري" يتساوى مع أي مصدر آخر للطاقة و"القوة" و"المال". تلك المساواة أدت بدورها لتغيير قيمة الإنسان؛ فلم تعد آدميته مصدرًا لقيمته؛ بل أصبح المصدر الوحيد لذلك هو "إنتاجه" أو "ما يضيفه من ماديات للمجتمع"؛ الأمر الذي عَنَى أن أي إنسان لا يمثل وجوده في الحياة مصدرًا للمنفعة المادية هو ببساطة" شيء لا لزوم لوجوده، والأفضل التخلص منه توفيرًا لما يستهلك من مساحة وغذاء وموارد!
تزامن هذا مع الثورة في علم الأجناس وتوابع نظرية "النشوء والارتقاء" للعالم تشارلز داروين، وما صاحب ذلك من نمو وانتشار النظريات العنصرية التي بدأت تقسم الأجناس البشرية إلى أجناس راقية وأخرى منحطة. وأدى التزاوج الطبيعي بين تلك الأفكار وفكرة تحويل الإنسان ل"شيء نفعي فحسب" إلى النظر لبعض الأجناس -تحديدًا تلك التي احتلت أوروبا بلادها- على أنها بلا أهمية ومن الأفضل التخلص منها؛ حيث إنها تمثل عالة على "الرجل الأبيض الراقي"، أو تسخيرها لخدمته فحسب بالسُخرة أو بالحد الأدنى من معطيات الحياة.. أما إعطاؤها الحق في الحياة لذاتها لمجرد أنها مخلوقات بشرية فهو أمر مستنكر حيث إن "بشرية" تلك الجماعات البشرية (كالزنوج والصُفر والهنود الحمر) ناقصة طالما أنها لا تحقق للعالم نفس الفائدة "المادية" التي يحققها الرجل الأبيض! من رَحِم هذه ال"أوروبا".. خرجت النازية! الجيش الألماني عن الفكر النازي
شرح الفكر النازي يطول؛ لهذا فلن أتناوله كله، وعلى أية حال فما يهمنا منه هو وجهه القبيح، وهو الغالب عليه -بحق- لهذا فسأركز عليه فحسب.
تبدأ ولادة الفكر النازي المرتبط بكل ما هو عنصري ومتعصب إلى تلك المرحلة من حياة أدولف هتلر التي ترك فيها الجيش بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.
تجربة هتلر مع الحرب والهزيمة خلقت داخله مرارة كبيرة في أربعة اتجاهات: الأول كان اتجاه الدول المنتصرة التي تعمدت -بالفعل- أن تذل ألمانيا وتكسر كبرياءها، والثاني كان في اتجاه رجال الحكم الألمان الذين رآهم هتلر غير أهل للمسئولية، والثالث كان موجهًا للتيارات السياسة المعارضة في بلاده، كالاشتراكيين والشيوعيين، وهذا لأن دعوتهم عمال مصانع الذخيرة لتنفيذ إضراب عن العمل -للمطالبة بحقوقهم- تزامن مع أكثر أوقات الحرب خطورة وأشدها حرجًا، أما الاتجاه الأخير فكان موجهًا للعناصر ذات الأصول غير الألمانية من سكان ألمانيا، كاليهود والسلاف والغجر، باعتبار أن وجودهم كان بمثابة الشوائب التي غيرت تركيبة الشعب الألماني وأفقدته عناصر تميزه وتفوقه.
تلك المرارات كان يشاركه فيها عدد كبير من أبناء الشعب الألماني؛ فالإذلال القاسي الذي تعرضت له الأمة الألمانية كان بمثابة السماد المقوي لنبتة الشعور بكراهية "الآخر"، سواء كان هذا الآخر هو من أذل ألمانيا، أو من صمت وهو يشاهد إذلالها، أو حتى لم يصبه ما أصابها وكفى! هنا اعتبر هتلر -ومن فكروا مثله- أن ما جرى كان مؤامرة على "الجنس الألماني العظيم" لتحطيم "قدرته الطبيعية على التفوق"، أي أنهم فسروا ما جرى لهم بأنه نزعة عنصرية من الأمم الأخرى، فتفجرت منهم ما يُسَمَى ب"العنصرية المضادة" ضد كل ما هو ليس ألمانيًا خالصًا.
من الطبيعي أن الأمم المقهورة تنشأ لديها نزعة تمسك بالهوية الأصيلة المكونة لأساسها؛ ولكن هتلر والنازيين بالغوا في ذلك وتعاملوا بمنطلق "بارانويدي" عنيف حوّلهم من ضحايا لمجرمين. فقد قاموا بتصنيف كل ما ليس جرمانيًا آريًا أصيلاً إما بأنه "عنصر يشوه بنية المجتمع" كالغجر والسلاف، أو أنه "عنصر ضار بالمجتمع" كاليهود. وتطور الأمر ليطال الألمان "غير النافعين للمجتمع" كالمعاقين وأصحاب الأمراض المزمنة والمتوارثة، و"المارقين عن المجتمع" كالمجرمين والشواذ جنسيًا وأصحاب الأفكار المغضوب عليها، كالاشتراكيين والشيوعيين. كل هؤلاء السالف ذكرهم كانوا -في نظر النازيين- عناصر مرفوضة، ينبغي التعامل معها بسرعة وحزم ل"تنقية"المجتمع منها!
بمعنى أدق.. اختصر النازيون "الإنسان" في: الرجل الألماني المنتمي للجنس الآري، شريطة أن لا يكون يهوديًا ولا من أصل غير ألماني ولا معاقًا ولا شاذًا ولا مجرمًا ولا مريضًا بمرض مزمن أو وراثي أو ميئوس منه.. بمعنى أدق.. أسقط النازيون الإنسانية -بجرة قلم- عن ملايين البشر، بمنتهى البساطة! المثير أن تلك الأفكار لم تكن تقتصر المساحة المراد تطبيقها فيها على مساحة الدولة الألمانية فحسب؛ بل كانت تمتد لكل الشعوب التي تتحدث الألمانية أو تنحدر من أصول جرمانية، أو لها علاقة بالتاريخ الجرماني، أي أنهم كانوا يتحدثون عن أوروبا كلها تقريبًا! ممارسات نازية
لم يتوقف النازيون عن مرحلة الفكرة، بل سارعوا -فور توليهم السلطة- وبشكل تدريجي لتطبيق أفكارهم عمليًا.
فتم عمل برنامج حكومي منظم ومعد بدقة للقيام بعملية "فرز" للألمان، فمن تنطبق عليه "مقاييس الصلاحية" يعتبر ألمانيًا أصيلاً ويحظى ب"شرف" المواطنة. أما من لا يمر من المصفاة النازية ضيقة الفتحات فالويل له!
فتلك الفئة الأخيرة قام النازيون بتقسيمها، فالمشوهون والمعاقون جسديًا وذهنيًا والمرضى بأمراض مستعصية أو مزمنة أو وراثية كان يجري التخلص منهم بلا نقاش أو في أفضل الأحوال تعقيمهم (منعهم من الإنجاب) كيلا يلوثوا "الجنس الآري" بمزيد من أشباههم، وكانت جثث بعضهم ترسل للعلماء النازيين لفحصها وتشريحها باعتبار أنهم مصدر ثري للأجساد المعتلة المرغوب في كشف أسباب اعتلالها لحماية الأجيال الآرية القادمة من العطب! كان هذا التعامل اللا إنساني مع هؤلاء المساكين ينطلق من مبدأ أنهم مجرد "مستهلكين" للثروات لا يفيدون المجتمع، مما كان يعني ضرورة التخلص منهم، ونفس المبدأ القاسي تم تطبيقه فيما بعد -خلال الحرب العالمية الثانية- على الميئوس من شفائهم من جرحى الجيش النازي! أما المنتمون لأعراق غير ذات أصول ألمانية -كاليهود والغجر والسلاف- فقد وجدوا أنفسهم في معسكرات الاعتقال الكبيرة -حيث كان يتم تقسيمهم إلى فئات. فأقوياء البنية كانوا يوضعون في معسكرات العمل بالسخرة لصالح المؤسسات الصناعية الألمانية باعتبارهم طاقة مجانية، ومتوسطو القوة كان يتم وضعهم في معسكرات عمل مماثلة في ظروف إنسانية أسوأ بحيث يتم إضعافهم بالعمل الشاق وسوء التغذية حتى يموتوا ببطء، والضعاف تمامًا كان يجري التخلص منهم فورًا. نسبة من هؤلاء كان يتم إرسالهم لمعامل التجارب الطبية للعلماء النازيين بقيادة دكتور يوسف مينجيل، حيث كان يتم إجراء التجارب عليهم، خاصة تلك المتعلقة بتحمل الألم والظروف القاسية. فقد كان يتم إجراء عمليات جراحية كاملة -بعضها كان بترًا للأطراف- لبعضهم دون تخدير لدراسة مستوى إحساسهم بالألم. وكان منهم من يوضع في ثلاجات شديدة البرودة، فضلاً عن من كانوا يملأون مثاناتهم بالمياه لدراسة مستوى ألمها، ومن كانوا يجربون فيهم أسلحة الجيش من رصاصات وغازات قاتلة. الفئة الوحيدة التي كانت في مأمَن من تلك الممارسات هي الفئات المفيدة للمجتمع الألماني بشكل لا يمكن الاستغناء عنه.
فالزعماء النازيون كانوا يعلمون أن بعض ضباطهم على علاقات عاطفية وبل وعائلية بيهود وسلاف، ولكنهم -أي الزعماء- تغاضوا عن ذلك نظرًا لبعض الفوائد الناتجة عن وجود هؤلاء "الأغيار" في المجتمع الألماني، سواء كانت فوائد متمثلة في مواهب خاصة لدى بعضهم يصعب إهدارها، أو خدمات يقدمونها للنظام النازي يصعب الحصول على مثلها من غيرهم. فكان يتم التغاضي عنهم، بل وأحيانًا كان يتم محو ماضيهم غير الألماني وتحويلهم لمواطنين ألمان خالصين، خاصة من امتلكوا منهم بعض أو كل الصفات المميزة للآري الأصيل، كالملامح والثقافة ونمط الحياة!
أي أنه حتى النازية كان لديها بعض "المرونة" مع أعدائها طالما خدمها ذلك! حتى أن الألمان -كي لا يغضبوا حلفاءهم اليابانيين بالنظرة النازية العنصرية للجنس الأصفر- اعتبروا أن الجنس الأصفر جنس آري بصورة "شرفية"! الجدير بالذكر أن القائمين على تلك الأفعال -من القائد الأعلى إلى أصغر منفذ- كانوا يمارسون ذلك بشكل روتيني خالي من المشاعر والانفعالات باعتبارهم "موظفين" يقومون بتنفيذ أوامر رؤسائهم. هكذا بالفعل -رغم صعوبة تصديق ذلك- ولكنه حقيقي. كانوا يقومون بأبشع الممارسات باعتبارها "عملاً"، مجرد عمل.. حتى أن جميع عمليات التعذيب والقتل والإبادة الجماعية والتجارب غير الإنسانية كانت تسمى بأسماء ومصطلحات لا تمت بصلة لأسمائها الحقيقية، وليست فيها إشارة من بعيد أو قريب لأفعال العنف من قتل وإيلام وإيذاء بدني أو نفسي.
حتى أن الجنود النازيين كانت لديهم أوامر بعدم إساءة معاملة المعتقلين حتى أثناء اقتيادهم لأفران الغاز! وأي ضابط أو جندي يُضبط أثناء ممارسة سلوك إنساني كان يُعاقَب بصرامة ويُقصَى عن مهمته، سواء كان ذلك السلوك إيجابيًا -كالتعاطف والإشفاق- أو سلبيًا -كالعنف أو إقحام السادية الشخصية في "عمله". كانت تلك نقطة هامة ركز عليها علماء النفس النازيون لضمان تحييد مشاعر جنودهم وضباطهم من أية مشاعر يمكن أن تفسد ذلك العمل الدقيق الذي كان يخضع لإدارات ومعاملات مكتبية منظمة بدقة! رد الفعل
لو تغاضينا عن توسعات ألمانيا على حساب جيرانها كسبب كافٍ لتكسب عداء العالم، فإن دول أوروبا وأمريكا لم تخشَ النازية لذاتها، فنفس تلك الممارسات كانت تمارَس -بشكل أو بآخر- من كل دولة أوروبية في مستعمراتها -بعضها أو كلها- وأمريكا كان لها الباع الطويل في الإبادة المنظمة للهنود الحمر. لكن ما أفزعهم حقًا هو أن ما مارسوه هم تحت أسماء مستعارة مارسته ألمانيا باسمه الحقيقي، وما فعلوه بستار أنيق قامت به بشكل فج، وما قاموا به مع "غيرهم" في آسيا وإفريقيا قام به النازيون مع "الرجل الأبيض" في قلب أوروبا! لهذا فقد اتسم تعاملهم معه بتنسيق قلما يتم بينهم، وقسوة نادرًا ما يستخدمها الرجل الغربي ضد شبيهه. فانهالت غاراتهم دكّا في المدن الألمانية مسقطة مئات الآلاف من القتلى، وتتابعت عملياتهم المخابراتية لتجنيد العملاء من داخل ألمانيا للقضاء على هتلر وأعوانه، وبالفعل مال ميزان القوى -لأسباب بطول شرحها- لصالح الحلفاء منذ عام 1942 وانتهت الحرب سنة 1945 باجتياح القوات المتحالفة للأراضي الألمانية وانتحار هتلر وكثير من رجاله، ثم مرحلة المحاكمات الشهيرة للزعماء النازيين.
الخلاصة
التجربة النازية تعتبر -بحق- أقسى تجربة في تاريخ أوروبا، فهي أولاً جعلتها تفيق على حقيقة أن أفكارها وممارساتها في مستعمراتها يمكنها أن تجد لها مكانًا في قلبها! وثانيًا كانت النازية بمثابة انطلاقة للتيارات العنصرية المماثلة في العالم الغربي، كمنظمات النازيين الجدد في أغلب دول أوروبا، ومنظمة "كلوكلوكس كلان" العنصرية في أمريكا، بل والحركة الصهيونية فيما بعد الحرب العالمية الثانية. نعم.. كانت التجربة النازية عاصفة حرَّكت الغرب -بل العالم كله- وكانت جريمة وفسادًا كبيرًا في الأرض ارتكبه هتلر وأعوانه، ولكن هذا لا يمنع أن المجرم الأكبر في النهاية -والذي يفوق هتلر ذاته إجرامًا- هو من صنع الظروف الملائمة لولادة ونمو النازية!
(يتبع)
مصادر المعلومات:
1- الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ: د.عبد الوهاب المسيري. 2- انطلاقة الرايخ الثالث: أ.عساف. 3- كفاحي: أدولف هتلر. 4- هتلر في الميزان: عباس محمود العقاد. 5- الجمعيات السرية: نورمان ماكنزي. 6- موسوعة الحروب: هيثم هلال. 7- القانون الدولي الإنساني: د.محمد فهاد الشلالدة.